تخطي التنقل

Category Archives: فراديس

 

فراديس) مجلة تعنى بالشعر وتحولاته أطلقها وحررها من باريس الشاعر عبد القادر الجنابي في تسعينيات القرن العشرين

هذه المدونة التي يحررها ويشرف عليها الشاعر حكمت الحاج هي تكريم لذكرى (فراديس) وصاحبها ولقوة ما أنتجته من تأثير في الشعرية العربية الراهنة

تتضمن هذه المدونة ما تيسر من مواد (فراديس) المجلة بأعدادها العشرة قبل توقفها عن الصدور، اضافة الى أهم ما كان قد نشر، وما استجد من أعمال الشاعر عبد القادر الجنابي، على أمل أن تتوفر الامكانات والفرص لنشر أعداد مجلة (فراديس) كاملة كما تم نشرها حينها

This is a test post from flickr, a fancy photo sharing thing.

GMT 15:15:00 2006 السبت 11 نوفمبر

عبدالقادر الجنابي


في واحدة من أفضل المقالات عن أندريه بروتون نبه الشاعر المكسيكي اوكتافيو باث الى نقطة جوهرية يجب أن تؤخذ في الاعتبار: “من المستحيل الكتابة عن أندريه بروتون بلغة تنقصها العاطفة والشغف”. وها هي ذكرى وفاته الأربعون تَحلُّ، وبمناسبتها سيحتفل كل على طريقته، بل حتى الخصوم ستكون لهم كلمة بشأنه. ذلك أن ذكرى بروتون لابد أن “تندلع في رأس الجميع اندلاع الينابيع في حقل من الورد”، على حد عبارة الشاعر الصديق أنسي الحاج. فلكل قرن أسطورة، وأسطورة القرن العشرين هي السوريالية، ولولا أندريه بروتون، بسلامته، خلقه وصلابته الفكرية، لما كان لهذه الأسطورة مقامها في حضرة تاريخ الذكاء الإنساني. وها نحن بدورنا نقوم بزيارة أهم المحطات في حياته متلمسين تبلور المقومات الرئيسية للسوريالية، فيستخلص القارئ بنفسه ما تبقى منها ساري المفعول وفعالا في مطلع الألف الثالث.

ولد أندريه بروتون في التاسع عشر من شباط (فبراير )1896 في “تانشبريه” (آورن – فرنسا) لأب أصله من مقاطعة “اللورين”، عَلماني وجد متحمس لتطلعات ولده، والأم أصلها من “بريتاين” مؤمنة وباردة سيصفها بروتون لاحقا بعبارات جد قاسية: “متسلطة، ضئيلة، حقودة”، مما جعلت الجو العائلي لا يطاق (وهنا يكمن احد الدوافع وراء تصريحه في كتابه “الحب المجنون”: “يجب طمر العائلة، قبل كل شيء”)، ومع هذا فان ثمة أوقاتا جميلة، في طفولة بروتون، لعبت دورا كبيرا في تنمية حاسته التشكيلية، خصوصا تلك

منشورات المعارك من أجل الدادائية والسوريالية

لتي كان يتلقى فيها تربيته على جَده لأمه، بيير لكوجيس. فبيير هذا كان قاصا ماهرا، علّم بروتون اللغة وقصص الغموض والأسرار، والاهتمام الشديد بالحشرات والولع بالغابات.

غادرت عائلة بروتون، في فاتح القرن العشرين، غابات “بريتاين” صوب باريس، لتستقر قرب منطقة “بانتان”. دخل اندريه مدرسة “شابتال” في عام 1904. وها هي حياته تتكدر بسبب الروتين المدرسي وتصرف أمه السلطوي. وما إن بلغ الخامسة عشرة حتى تجلى له بفضل احد المعلمين أساطين الشعر ونوره: مالارميه، بودلير، شعراء الرمزية الخ فأخذ يحضر القراءات الشعرية التي كانت تجري في مسرح “لفيو كولومبييه”… بل حاول كتابة الشعر متأثرا ببول فاليري، فكانت قصيدته الاولى التي نشرها اوائل 1914 في مجلة “الكتيبة” مهداة الى فاليري. وكانت الزيارات مع أبيه إلى بعض المتاحف والمعارض، تمتع ناظريه وتعمق من حاسته النقدية. شاهد للمرة الاولى لوحات ماتيس، فاثارت إعجابه بقدر ما كان والده يجدها مخزية. لكن دهشته الحقيقية تجسدت في زيارته “متحف غوستاف مورو” الذي أثر بشكل قاطع على مفهوم الحب لديه. ذلك أن الحب والجمال تجليا له بواسطة وجوه نساء “مورو” والوضعيات المعينة التي اتخذتها. وكم تمنى بروتون لو حُبس في ذلك المتحف ليلة ليطوف وحده القاعات كلها. وفي غمرة هذا التلقين الروحي والتطهير الشعري، وقع في حب ابنة خالته “مانو” التي أدرك من خلالها المزيج من الإغراء والذعر. لم تدم العلاقة طويلا. وفي تشرين الاول (اكتوبر) 1914، دخل كلية الطب تلبية لطلب أبويه، وها هو يغير، في سجل الكلية، تاريخ ميلاده من 19 شباط الى 18 شباط، وهو تاريخ ولادة ابنة خالته. وسيكون لهذا التغيير الناجم أولا عن تجربة حب فاشلة، من برج الحوت إلى برج الدلو دلالة تنجيمية يتغذى منها فكر أندريه بروتون برمته.

كان الشارع الفرنسي منشغلا بأخبار اندلاع الحرب العالمية الاولى وخصوصا بانعدام الأمل في السلام بعد مقتل الاشتراكي جان جورس. وقد كتب بروتون إلى صديقه تيودور فرانكل، رسالة يفصح فيها عن امتعاضه من المشاعر الشوفينية والحماسات الهستيرية لدى الناس. والغريب انه في هذه الفترة بالذات، حصل على الطبعة الكاملة لأعمال رامبو التي تضمنت رسائل لم يحبذ احد آنذاك قراءتها، خصوصا تلك الموجهة الى جورج ازامبارد في الخامس والعشرين من آب (اغسطس )1870 يحذر فيها من يقظة العسكر: “وطني ينهض افضل ان اراه جالسا: لا تهيجوا الجزم. هذا هو مبدئي”. تمنى بروتون أن يُعفى من الخدمة العسكرية. لكن هيهات، فالفحص الطبي أكد انه صالحٌ،

بروتون مع تروتسكي والفنان المكسيكس ديغو رفيرا

وعليه أن يسجل، للخدمة العسكرية، فتم ارساله في الخامس والعشرين من شباط 1915 الى مدينة “بونتيف” في “بريتاين” لاتمام التدريبات اللازمة، وبعد خمسة اشهر أرسِلَ الى مدينة “نانت” كممرض في مستشفى البلدية. ومع هذا كان بروتون طوال فترة الحرب يتغذى بأفضل ما كان ينتجه شباب جيله امثال “مارسيل دوشان” هذا الفنان الذي عبر عن اشمئزازه من الفن، مفضلا لعب الشطرنج، وهو صاحب نظرية جديدة تقول ان كل ما يجده المرء من أغرض مرمية (ready made ) يمكن لها ان ترقى الى مستوى الفن وفقا لارادة الفنان. وبالفعل فان العمل الذي عرضه دوشان في معرض المستقلين سنة 1917 في نيويورك، كان “مبولة” وجدها في الشارع وحتى يجعل منها تحفة فنية خالدة، كتب فقط على أحد جوانبها بالحبر الصيني: “نافورة”، وهكذا دخلت متحف نيويورك كواحدة من أعظم أعمال الحركة الدادائية! وثمة شهاب آخر مر في سماء الاحتجاج على العقلانية المتوجة بأبشع حرب عالمية: “آرتور كرافان ‘الذي كان يعتبر نفسه “جنديا فارا من سبعة عشر بلدا”، غير اسمه مرات، وادعى انه الابن الشرعي لاوسكار وايلد! وذات يوم عبر الخليج المكسيكي فاختفى، لا يعرف احد إن مات غرقا، أو غير هويته واسمه ومهنته، وبات إنسانا آخر لا علاقة له البتة بكل هذه الأسطورة التي خلدته كأب أول للحركة الدادائية، صاحب مجلة صغيرة مطبوعة على ورق لف اللحم، غير منتظمة الصدور، كان يكتب كل موادها، صدر منها ستة أعداد فحسب، عنوانها: “الآن”! يقال أن تروتسكي التقى به في سفينة.

كان اندريه بروتون يجتاز التجارب الشعرية والفنية الجديدة التي شهدتها فرنسا منذ اندلاع الحرب العالمية الاولى، مع تتبع اخبار المجموعات الفوضوية ويستلهمها، خصوصا مجموعة “بونيه” التي كانت تهاجم مراكز الشرطة والمصارف. كما كان يواصل مراسلاته مع شعراء الحداثة آنذاك كفاليري وابوليتير مستفيدا من ملاحظاتهم النقدية ازاء ما ينشره من قصائد ما تزال تعكس تأثيراتهم وتأثيرات ماليرميه ورامبو. الا انها قصائد واعدة تنم عن اسلوب مشغول بليغ لا يقبل السهولة. لكن الشيء الغائر في اعماقه كان يحتاج الى من يبرزه الى العيان. واذا بنظره يقع، اثناء احدى استطلاعاته داخل ردهات المستشفى، في مدينة نانت، اواخر شباط 1916، على شاب ادخل للمعالجة، له شعر اصهب، غريب الاطوار يعاكس الممرضات باحاديث غريبة ويرسم نفسه على بطاقات واقفا وخلفه جثثت الحرب وكأنه متكئ على بار. اللقاء بهذا الشاب سيغير حياة اندريه بروتون: انه جاك فاشيه الدادائي قبل الدادائية، المغرم بالملابس بحيث كان يتجول مرتديا زي ضباط في الخيالة، او زي طيار او طبيب. وان التقاك، فانه يتابع طريقه كأنه لا يعرفك ابدا لا يمد يده للمصافحة ولا يقول عمت صباحا او عمت مساء يكره رامبو بل يشك حتى في وجوده. معجب بالفريد جاري، ويكاد يجهل ابولينير ولم تعجبه مسرحية ابولينير: “ثديا تيرزياز”، اذ ما ان انتهى فصلها الاول الذي اثارت قرفه، حتى سحب مسدسا وهو بزي انكليزي وهدد المشاهدين باطلاق النار عليهم. كانت له صديقة، وعندما يأتيه زائر يطلب منها ان تجلس في الزاوية صامتة لساعات، وعندما تدق الخامسة بعد الظهر تقوم وتقدم لهما الشاي فيشكرها بقبلة على احدى يديها. انه “سيد فن التقليل من اهمية كل شيء”. لم يترك عملا ادبيا واحدا، اذ كل ما تركه من “تراث يذكر” هو 15 رسالة صغيرة، نشرها اندريه بروتون سنة 1919، مع مقدمة تحت عنوان “رسائل

بريشة اندريه ماسون

الحرب”. وجدوه مع جندي آخر ميتا من معاقرة الافيون، في غرفة فندق، عن عمر يناهز الثالثة والعشرين. كان لخبر انتحاره الغامض الى اليوم، وقع الصاعقة على اندريه بروتون، خصوصا انه جاء بوقت قليل بعد موت أيولينير. اكتشف بروتون من خلال احتقار فاشيه لكل ما يمت بصلة الى عالم الفن والكتابة، بأن كل هؤلاء الشعراء الذين كان يعقد عليهم امالا ليسوا سوى رجال ادب همهم ابقاء اللعبة الادبية مستمرة، بل تراءت لبروتون من خلال معاشرته فاشيه، امكانية وجود شعر بلا قصائد. وقد كتب بروتون ذات مرة: “لو لقائي بجاك فاشيه، لكنت الآن مجرد شاعر”!

اصدر بروتون سنة 1919 مجموعته الشعرية الاولى تحت عنوان: “محل الرهونات” وكأنه يسدد ديونا ادبية للشعراء الذين تأثر بهم وتتجلى فيها بكل وضوح تأثيرات رامبو وريفيردي وابولينير، كما اعتمد تقنية جديدة هي مونتاج فقرات مقتطفة من هذه الجريدة او تلك المجلة بعد تحويرها. ولئن تفصح المجموعة عن محاولات تجديد يتجلى فيها رفضه المبكر للمقاييس الادبية السائدة، فان بروتون كان غير راض عما يكتبه، اذ ثمة شيء ناقص لم يع آنذاك ما هو. ما هي الحدود الفاصلة بين الشعر والحياة؟ ما جدوى الكتابة؟ فالمسألة ليست كيف تكتب، وانما كيف تحيا، ولماذا تحيا الخ.

وذات مساء، وهو على وشك ان ينام، سمع بكل وضوح جملة بدت له ملحاحة، كانت “تقرع زجاج نافذته”، وما ان حاول تدوينها حتى لم يعد يتذكرها بالضبط، شيء من هذا القبيل تقريبا: “ثمة رجل تشطره النافذة الى نصفين”، لكنها لا تحتمل اي لبس، اذ كان يرافقها تخيل بصري طفيف لرجل يسير وقد قطعته في النقطة الوسط نافذة تعامد محور جسمه. وما من شك ان الامر كان يتعلق برجل يطل من نافذته.. فادرك بروتون انه يتعامل مع صورة من النوع النادر، ولم يخطر له سوى ادخالها في صلب بنائه الشعري. وبينما كان مشغولا بفرويد وقد ألف طرق فحصه التي يطبقها على بعض المرضى، فقد صمم على ان يحصل من نفسه ما كان يحاول الحصول عليه منهم، اي على مونولوغ منطوق بأسرع ما يمكن من دون اي تدخل من جانب الحواس النقدية، وبالتالي مونولوغ غير متلبك بأدنى الطموحات، واقرب الى التفكير الشفهي وقد بدا له ان سرعة التفكير لا تفوق بكثير سرعة الكلام وانها لا تتحدى اللغة حتما ولا حتى القلم الذي يجري بها.

اطلع بروتون فيليب سوبو على النتائج الاولية واخذا يسودان الورق وهما في ازدراء محبب لما قد يسبب هذا في نظام الأدب. وبتعليقهما العالم الخارجي، ارادا ان يعيدا، طوعا، داخل ذواتهما الحالة التي كانت تتشكل فيها هذه الجمل المشبعة بالالغاز، وقد تواردت عليهما على هذا النحو طوال شهرين، تتزايد اعدادها وتتلاحق دونما فاصل زمني وليست “الحقول المغناطيسية” التي صدرت في ايلول (سبتمبر )1920، سوى التطبيق الاول لهذا الاكتشاف (اكتشاف وليس ابتكارا) اذ يمكن العثور على ما يحمل سمات الكتابة الاوتوماتيكية لدى كتاب الماضي من افلاطون حتى كنوت هامسن، لكن بسبب انانيتهم الطامحة الى ثواب رسمي، اتخذوها مجرد وسيلة للصناعة الادبية، بينما السوريالية اعتبرت الكتابة الاوتوماتيكية، التي كشفت عن نفسها للمرة الاولى عبر هذه “الحقول”، صيغة عليا يكشف بها الانسان سره وسر الكون.

الكتابة الاوتوماتيكية تفقد فاعليتها ما ان تستعمل لخدمة أهداف ادبية. لم يتأخر بروتون عن منح الكتابة الاوتوماتيكية اهمية فكرية كبرى اكثر من اعتبارها مجرد مواد للكتابة

غلاف احد دواوينه صممه مارسيل دوشان

الشعرية. وليس اعتباطا ان تكون في صلب التعريف الذي وضعه بروتون سنة 1924 للسوريالية: “اسم مؤنث، وهي الآلية النفسية المحض التي يريد المرء عن طريقها التعبير شفويا أو كتابيا أو بأية طريقة اخرى عن وظيفة الفكر الحقيقية. وهي ما يعلي الفكر بعيدا عن أية رقابة يمارسها العقل وبعيدا عن أي اهتمام جمالي أو اخلاقي”.

وبالاشتراك مع فيليب سوبو ولوي اراغون، اصدر بروتون (آذار /مارس 1919 )مجلة جديدة عنوانها: “أدب” لا لتدل على تهكم من مفهوم الأدب كله فحسب، بل لاستنطاق كل الاشكال المؤدية الى مضمون تحرري من ربقة الانانية الادبية. وعند وصول تريستان تزارا اثر دعوة بروتون اياه الى باريس فتحت المجلة صدرها لبيانات تزارا، بحيث اصبحت منبرا للعصيان الدادائي في فرنسا. كانت هذه المجلة المنطوية على بذرة السوريالية، أول من اجرى الاستفتاء الساري المفعول حتى اليوم: “لماذا تكتبون؟”. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الكتابة في نظر بروتون لم تكن سوى طريقة أخرى للتواصل الإنساني، ولخلق التواصل مع الآخر يجب أن يكون هناك معنى؛ قضية وجوهرا في الكتابة. فمن الخطأ إذا، أن نسأل ما الذي يميز بروتون عن بقية رفقائه السورياليين. ففي نظر بروتون لكل إنسان تعبيره وبالتالي إضافته. لم يقبل أحدا في الحركة السوريالية ما لم يكن له شيء، حتى لو كان جد صغير، يضيفه.

سرعان ما اكتشف بروتون ان ليس من جديد في كل هذا التمرد النفيوي الدادائي، اذ سبق ان عاصر نفيا للفن كهذا قبل ظهور الدادائية، عند جاك فاشيه الذي كتب: “الفن حماقة”. ذلك ان بروتون اراد من كل هذا الوعي المضاد لمسيرة العقلانية في التاريخ، ان يكون تمرد ذكاء قادر على تخليص العقل من محدوديته وجعله مفتاح الحريات كلها. فها هو يمهد، في مقالته عن لوتريامون المنشورة في “المجلة الفرنسية الجديدة” (حزيران /يونيو 1920 )، انفصاله عن الدادائية بالعبارة التالية: “والآن ندري ان الشعر من شأنه ان يفضي الى مكان ما”. كما ان المشكلة في نظر بروتون، لا تكمن في الفن وانما في صلب الذين يوجهونه، وما على الدادائية الا ان تحاكمهم بدلا من ان تواصل التهريج والمشهدية. لذا طالب بروتون بمحاكمة موريس باريز الذي كان في شبابه كاتبا ذا طموحات مثالية ومخيلة رائعة، لكنه وضع الآن كل مواهبه من اجل خدمة شوفينية للارض والموتى والوطن، اي في خدمة كل ما كانت ترفضه مجموعة “أدب”. واثناء المحكمة اندلعت مساجلة حادة بين تزارا وبروتون اثارت حربا بينهما. لكن بروتون اقترح عقد “مؤتمر دولي لتحديد ايعازات الفكر الحديث والدفاع عنه”. فامتنع تزارا عن الحضور. فلم يكن امام بروتون سوى ان يهجر “دادا”مع عدد من رفاقه. فكفت مجلة “أدب” ان تكون منبرا دادائيا، من سنة 1922 وحتى

الصفحة الرئيسية من جريدة الفوضويين الفرنسيين

احتجابها سنة 1924، مركزة اهتمامها على مواضيع التجريب الشعري بكل الوسائل: الكتابة الآلية، سرد الاحلام، نصوص يتم الحصول عليها بواسطة التنويم المغناطيسي. ولئن كانت مقومات السوريالية آخذة في الظهور، فان ترددا كان يمنعها من اعلان نفسها. وخلال هذه الفترة الحرجة من تاريخ السوريالية، ازداد اهتمام بروتون بكتابة الشعر، بأصدار مجموعته الثانية: “ضوء الأرض”. ثم الحقها بكتاب يضم مقالاته النقدية عنوانه: “الخطى الضائعة”، وما ان حل خريف 1924، حتى صدر “بيان السوريالية الأول”، دفاعا عن المخيلة وطاقة الحلم والايمان بهما، ويعتبر هذا البيان أوج الاحتفال بجوهر الانسان: الحرية التي لها لون الانسان. وفي غضون أشهر، الحقه بقصائد نثر: “الاسماك القابلة للذوبان” (انقر هنا لقراءة قصائد نثر لبروتون)، وفي كانون الاول (ديسمبر )صدر العدد الاول من مجلة  “الثورة السوريالية” التي جاء على غلافها هذا النداء: “من اجل صياغة اعلان جديد لحقوق الانسان”. وفي العام نفسه اصدر اراغون كتابه التتويجي ‘لجة من الاحلام ‘. كما اصدروا كراسا صغيرا بعنوان ‘جثة ‘ضد اناتول فرانس، وحتى تكتمل معالم الحركة السوريالية تم انشاء مكتب للابحاث السوريالية واصدار بيانهم الشهير: “تصريح 27 كانون الثاني (يناير )1925″، جاء فيه: “ليست لنا علاقة بالأدب. لكننا جد متمكنين من استعماله كأي شخص آخر… السوريالية ليست وسيلة تعبير جديدة، ولا هي الأسهل، ولا هي حتى ميتافيزيك الشعر. انها وسيلة تحرر الروح الشامل، وكل ما يشابه هذه الروح… اننا مصممون على القيام بثورة”. وفعلا، ما ان اعلن عبدالكريم الخطابي حربه على الاستعمار الفرنسي للمغرب (منتصف عام 1925 )، حتى اصدر السورياليون بيانهم الشهير: “الثورة أولا ودائما” معلنين فيه مساندتهم الكاملة لتمرد الريف المغربي من اجل حريته وحقوقه العادلة. في الحقيقة ان ثورة عبدالكريم الخطابي اوجدت فرصة لتكاتف قوى المخيلة وقوى الخبز. فها هي الحركة السوريالية تعمل مع قوى اليسار الاجتماعي. غير ان الذي ضاعف من رغبة بروتون بربط بحث السوريالية “المثالي”، في نظر البعض، بالبحث الاجتماعي، هو كتاب تروتسكي عن “لينين”. اذ بفضل هذا الكتاب، ادرك بروتون ان المخيلة لا تستطيع الحصول على كل حقوقها الا من خلال نشاط اجتماعي ثوري بالمعنى الذي وضعه تروتسكي فجاءت مقالته عن الكتاب تمجيدية راسما فيها الشيوعية “الاداة المدهشة لتبديل عالم بآخر”. انضم بروتون الى الحزب الشيوعي، لكنه سرعان ما تركه مشمئزا من سوء نوايا الشيوعيين ازاء عملية الخلق، وقد أوضح اسباب خروجه في كراس عنوانه “الدفاع المشروع” مؤكدا فيه ان جميع السورياليين يريدون انتقال السلطة من ايدي البورجوازية الى ايدي البروليتاريا. لكنهم حاليا يرون انه من الضروري ان تستمر تجارب الروح الداخلية من دون رقابة خارجية، ماركسية أو غير ماركسية. كما ان اخبار المعارضة التروتسكية داخل الشيوعية العالمية، ساهمت في تصعيد الانشقاق بين هذه “الشيوعية” ذات الوجه الستاليني، وبين الحركة السوريالية التي ستكتسب من خلال دفاعها عن تروتسكي “شرعية ماركسية”. غير ان هذا البحث عن توحيد شعار رامبو: “تغيير الحياة” بشعار ماركس: “تغيير العالم”، لن يمر من دون انشقاقات داخل السوريالية. لذا اصدر بروتون “بيان السوريالية الثاني” واضعا فيه النقاط على حروف النشاط السوريالي الذي يكمن محركه الاساسي في الامل بتحديد نقطة معينة للفكر حيث تكف التناقضات كتناقضات، والذين اختلفوا مع بروتون كديزنوس وجاك بارون وبريفيرو جورج بتاي اصدروا نشرة من الحجم الكبير ضد بروتون بعنوان “جثة”، لكن بروتون اكتفى برد صغير نشر في خاتمة “البيان الثاني” في صورة عمودين متقابلين، مبينا عدم صدقيتهم: الأول تحت عنوان “قبل” وردت فيه فقرات مدح لبروتون من كتاباتهم القديمة، والعمود الثاني تحت عنوان “بعد” ضم فقرات هجاء مأخوذة من نشرتهم هذه. اما الاخرون كلوي اراغون وبول ايلوار وبنجاما بيريه ورونيه كريفيل، وحتى تريستان تزارا، وعناصر جديدة كسلفادور دالي ورينيه شار ولوي بونويل، فانهم ايدوا ما جاء في “البيان الثاني”، واصدروا مع بروتون مجلة جديدة عنوانها “السوريالية في خدمة الثورة”. هكذا كان على السوريالية ان تدشن ثلاثينات هذا القرن بمجابهة ثورية واضحة مع كل مظاهر القمع… لكنها مجابهة لم تتم على حساب تجارب الحياة الداخلية. ان فترة الثلاثينات تمثل اكثر فترات بروتون ابداعا فقد أصدر عام 1932 مجموعته الشعرية الثالثة: “مسدس ذو شعر أبيض”، ثم الحقها في العام نفسه بكتاب تأملي يهدف الى الربط بين الماركسية والفرويدية :’الاواني المستطرقة ‘. وفي عام 1937، اصدر” “الحب المجنون” الذي يعتبر التوسيع النظري لتلك النقطة المعينة للفكر المذكورة في “البيان

في بيته متحف الحاسة التشكيلية عبر نضالها

الثاني” والتي سماها هنا بالنقطة العليا. وفي هذا الكتاب ثمة ابتعاد في الاسلوب عن “نادجا”، اذ تختلط هنا عناصر السرد المعتمدة على تجارب حياتية عاشها بروتون ما بين 1934 و1936، بلغة التأمل النظري، ان كتاب “الحب المجنون” يعتبر اعظم نشيد احتفالي بـ”الحليف الاكبر للانسان في معركته مع القدر البشري”: الحب، حيث المرأة االمحبوبة أشبه بالوسيط تجترح للرجل الدرب المؤدي الى علاقة محظوظة مع عالم تمجده وتكسبه روعة وجمالا وثمة عملان جماعيان الاول مع بول ايلوار: “الحبل بلا دنس”، والثاني مجموعة قصائد اشترك في كتابتها مع ايلوار ورينيه شار، وعنوانها: “تمهل، الطريق تحت التعمير”. كما اصدر “الموقف السياسي للسوريالية”. وأشرف على تنظيم ثلاثة معارض سوريالية عالمية في باريس وبراغ ولندن. واشترك مع جورج بتاي في تكوين: ‘الهجوم المضاد ‘لمواجهة المخاطر اليمينية والفاشية والستالينية معا. فبروتون يعتبر من أول منيطي اللثام عن الحقيقة البشعة لـ”محاكم موسكو”، على ان فترة النضال والتحليل السوريالي لظروف ما بين الحربين هذه، توجت بالبيان المشترك الذي كتبه بروتون مع تروتسكي: “نحو فن حر ومستقل”. اندلاع الحرب العالمية الثانية، سيعرقل موقتا، نشاط الحركة السوريالية، فلم يكن امام بروتون سوى الذهاب الى الولايات المتحدة ليتابع النشاط هناك. فأصدر مع دوشان مجلة، ومن ثم نشر “تمهيدات أولى نحو بيان ثالث”. وفي قمة وحدته بعد ان تركته زوجته جاكلين لومبار، التقى اليزا فتزوجها، وثمرة هذا اللقاء كان كتابه الشهير “اركانوم 17” وهو رقم الكارت في لعبة التارو، ثم يعود الى باريس لينظم معرضا سورياليا عالميا تحت شعار ‘السوريالية عام 1947 ‘ويعيد تنظيم المجموعة السوريالية مع شباب جدد. غير ان ظروف ما بعد الحرب تميزت بالتشاؤم، ولم تعد ملائمة للغة التفاؤل الثوري الذي بقي بروتون مؤمنا به. فأصدر مع جان شوستر وآخرين عددا من المجلات كـ”ميديوم”، “السوريالية ذاتها” و’لابريش” وبيانات تندد بالغزو السوفياتي للمجر والاستعمار الفرنسي للجزائر.

توفي اندريه بروتون في الثامن والعشرين من ايلول (سبتمبر )1966. ودفن في مقبرة باتنيول. أراد السورياليون نقل جثمانه في سيارة نقل الاثاث لتحقيق أمنيته المذكورة في البيان الأول. الا ان الامر كان صعبا جدا، لذا تولت الصدفة الموضوعية أمر تحقيق هذه الامنية على الشكل التالي: ما ان وصل جثمانه مقبرة باتنيول، حتى وجد المشيعون سيارة لنقل الاثاث واقفة عند مدخلها!

لم يُضح اندريه بروتون باليقظة في سبيل العلم، بل عمد الى اذابتهما في مركب جسدي حي، على حد عبارة ميشيل كاروج وهو جعل من التراث السوريالي ذخرا بشريا لا ينضب. وذلك باعطاء الحركة السوريالية مصيرا أشبه بمصير مال توزع على عدة ورثة بحيث عمد كل منهم الى التصرف بحصته تبعا لهواه، ولأنه عاش من دون تنازل

المجلة التي كان يشرف عليها: “السوريالية، عينُها”

لمغريات عالم تتبوأه الشراهة والكذب والاعجاب بالذات. عالم تنعدم فيه ابسط مبادئ النزاهة الفكرية والحياتية على السواء. يكمن في صلب رؤية بروتون الشعرية الرفض القاطع لكل تواطؤ مهما كانت الجائزة أو الشهرة الجماهيرية الذي يوفرها هذا التواطؤ للمتواطئ. فبروتون لم يسع أبدا لا إلى اعتراف الوسط الأدبي به كشاعر، ولا الى نيل جوائز المؤسسات ولا أن يكون له جمهور مخدّر بعقاقير الأسماء. فالشعر، في نظره، ليس حسابات وقصدية بقدر ما هو عين عفوية الإنسان الملازمة، يحركها منطق داخلي صارم تتجلى صورا شعرية ليس العقل هو الذي يرتكبها بقدر ما تفضي هذه الصور بالعقل إلى قبولها وبالتالي تحريره من العقلنة المفروضة عليه. من خلال هذا الالحاح الأخلاقي والجمالي الذي كان يجسده بروتون، اصبحت السوريالة اعلى مراحل الأدب وفي الوقت ذاته هي الرفض المطلق لكل ما هو “أدبي”.
 بروتون بهذا المعنى التغييري انطوى على ايمان لم يتزعزع برهة، باعظم حاسة تساعد الانسان على استرداد طاقاته المسلوبة: حاسة الشعر، فالشعر، في معناه السوريالي (والكلام هنا لجان لوي بدوان )، لا يبعدنا عن الواقع، والشعر يحتم علينا رؤية الاشياء كما هي ليشحذ عزيمتنا على تغييرها وتحويلها الى ما هو أفضل. فهو اذن تمرد وقانون :تمرد مطلق وقانون أعلى. يرفض فوضى الاوضاع وحتميتها المزعومة، ويدعو الى العمل من اجل احلال الحرية التي هي ضد الفوضى والتفسخ الخلقي والعنف.

 

روبرت بلاي: تحذير إلى القارئ

GMT 21:45:00 2007 الأربعاء 8 أغسطس

<!–

عبدالقادر الجنابي
–>عبدالقادر الجنابي


قصيدة نثر بقلم الشاعر الأمريكي روبرت بلاي

ترجمها عبدالقادر الجنابي

مخازنُ حبوب المزرعة تصبح أحياناً جميلة بالأخص عندما يكون الشّوفان أو القمح قد نفد، والرّيح كَنست الأرضيّة الخشنة. واقفين بالدّاخل، نرى حولنا، آتيةً عبر فتحات ألواح الحائط المنكمشة، خيوط الشّمس أو أشرطة ضوئها. وهكذا في قصيدة عن السجن، يرى المرء نوراً صغيراً.
لكنّ كمّ من طير وقع في الفخ في مخازن الحبوب هذه. فالطائرُ، رائياً الحرّيّة في النور، يضطربُ مصطدماً بالحائط ويتراجع مراراً وتكراراً. المخرج هو حيث تدخل الفئران وتغادر؛ لكنّ ثقب الفأر منخفض حتّى الأرضيّة. حذار أيها الكتّاب إذن، عندما تظهرون النور على الجدران، أن توعدوا الطيور السوداء القلقة والمذعورة بمخرج!
أقول إلى القارئ، احترس. فالقرّاء الذين يُحبّون قصائد الضّوء قد يجلسون على شكل حَدَبة في الركن ما من شيء في أحشائهم طيلة أربعة أيّام، النور يتخافت والعيون مفتوحة متجمدة…
قد ينتهون كومةَ ريشٍ وجمجمةً على أرضيّة الخشب المنفرجة…

بوبروفسكي: شاعر الإشارات المبهمة

GMT 13:00:00 2007 السبت 28 يوليو

<!–

صالح كاظم وعبدالقادر الجنابي
–>صالح كاظم وعبدالقادر الجنابي


15 قصيدة حرّة

مقدمة صالح كاظم

عند الحديث عن الأدب الألماني المعاصر لا يمكن إلا التوقف عند مرحلة زمنية مهمة أغنت هذا الأدب بتجارب متميزة نشأت في أحضان النظام الشمولي في شرق ألمانيا وأصبحت رافدا أساسيا لثقافة ما بعدالحرب رغم صعوبة الخندق الثقافي الستاليني الذي حاول أن يقطعها عن إمتداداتها الطبيعية في غرب ألمانيا وقولبتها في نظريات بعيدة عن الأدب في جوهرها مثل ما كان يطلق عليه مصطلح "الواقعية الإشتراكية" أو "الأدب الملتزم" وغير ذلك من المصطلحات ذات الجذور البيروقراطية المؤدلجة. في ظل الجدار دأب عدد كبير من الفنانين والأدباء على السعي من خلال أساليب تعبير معينة للأفلات من سوط

الرقيب المتربص بهم وإنتاج أعمال أبداعية لا تقل طاقتها الإستفزازية، عما نشأ في ظل النظام الرأسمالي السائد في غرب المانيا، سيرا على النهج الذي رسخه بريشت في مقاله "خمس صعوبات في كتابة الحقيقة"، حيث يوصي الكاتب أن يستخدم "الحيلة" لنشر الحقيقة في ظروف القمع. ولا شك بأن بريشت كان هو أول من طبق هذه النصيحة في خمسينات القرن الماضي، سواء في قصائده أو في مسرحه "الديالكتيكي" القائم على أسس "المسرح الملحمي". هكذا تسربت الحداثة الى ادب وفن "المانيا الديمقراطية" وتركت بصماتها على الكثير من الإبداع الأدبي والفني لجيل ما بعد الحرب والأجيال اللاحقة حتى مرحلة سقوط الجدار وتوحيد المانيا. ورغم غلبة الطابع السياسي على أغلب ما كتب في "المانيا الديمقراطية" في خمسينات القرن العشرين ووجود تيار إيديولوجي واضح لدى بعض الشعراء والكتاب مثل كورت بارتل (كوبا) (1914- 1967) ويوهانيس آر.

مقدمة عبد القادر الجنابي

عندما اقترح القاص الصديق صالح كاظم ترجمة بعض قصائد يوهانس بوبروفسكي، شعرت وكأنه يوقظ فيّ لغةً شفيفة كدت أنساها؛ لغة بوبروفسكي التي تعرفت عليها أوائل تسعينات القرن الماضي وقمت آنذاك بترجمة عدد من قصائده و نشرت بعضها في "القدس العربي". وقد اعتمدت في ترجمتي على الترجمة التي قام بها ماثيو ميد بالتعاون مع زوجته روث ميد.. وكلاهما صديقٌ لبوبروفسكي، وصدرت في كتاب عن "انفيل برس" عام 1984، مع مدخل نقدي بقلم مايكل هامبورغر الذي توفي مطلع هذا العام. والترجمة الانجليزية هذه علاوة على إنها شعرية، لكنها جاءت دقيقة حد إن صالح كاظم عندما طلبت منه ان يراجع ترجمتي للقصائد ("أن يُسمّى على الدوام"، "لغة"، "ايقونات"، "عروس الماء"، "عندما الغرف"، "في المرآة الفارغة" و"الصياد الليلي") على النص الألماني، لم يجد خطأ يستحق التصحيح.
إن قوة ترجمة ماثيو وروث ميد أكدت، كما يذكر هامبورغر، على أن شعرية بوبروفسكي القائمة على مراجع مكانية والمجبولة من أطلال سامارتسيا الشبه أسطورية المذكورة في كتب المؤرخين الرومان، يمكن لها أن تعبر حدود اللغة الألمانية من دون أن تفقد شيئا من شفافيتها، غموضها وسمو دلالتها اللغوية: فالشعر هذا غموض هائل لكنه لا يستعصي على الفهم، وبقدر ما هو إيحاء إلى رموز محددة محليا، لكنه سرعان ما يعود إيحاءات كونية تبهر القارئ إلى سهوبه اللغوية وجداوله الأولى. فمنذ قصائده الأولى التي كتبها عن روسيا من وجهة نظر أجنبي ألماني، شعر أنه جزء من المنظر الذي يصفه؛ منظر يعج بكل أنواع القوميات وبتواريخ مختلفة الأجناس والأحداث، بل شعر بما يتحمله الألماني من مسؤولية عن مآساة اليهود، مما باتت بعض قصائده "فعلَ تكفيرٍ".
هذا التواشج العميق بين الشاعر والقصيدة، لم أجده بعد باول تسيلان، إلا عند بوبروفسكي. فالعمل الشعري هنا محنة؛ قلقٌ وتوجّس في الزمان الحاضر وكأن القصيدة روح طارق في جلسة تحضير أرواح من الزمان الماضي. لكنها أرواح حيّة تساعدنا هي على الكلام، على اختراق أزمنة غابرة باتت جزءً من ذاكرة اليوم المشتتة بين الوقائع والأهداف. فجرح الكائنات التاريخي ينبوعهما… واللغة، نواةَ عالم آخر، تحاول عند تسيلان وبوبروفسكي الظفرَ بواقعٍ ما… واقعٍ يمحو هذا الجرح، فتنمو الندبةُ، في أرض ظلال، "شاهدا لمن ليس له شاهد". الفارق هو أن تسيلان كان يستمد أبجديته مما واجه عرقه من إبادة في معسكرات "العقل" النازية. بينما بوبروفسكي، صاحب المشاعر المتزنة التي لا تشطّ مهما كانت الذكرى مؤلمة، كان يحاول خلق أبجديةٍ أسطوريةِ المكان، ليتخلص من انتماء اعتباطي (اعتباطية التحاقه الاجباري بالجيش الألماني إبان الحرب العالمية الثانية)، إلى عرق كان مسؤولا عن هذه الإبادة.
لكلٍ نظرتُه إلى المعطى؛ مقاربته الشعرية من كسوف اللغة… على أن كلاهما يخلّص النُبوئي، بضاعة الشعراء البائسين، من هالته المفتعلة، والكارثي من فظاظته. ففي شعرهما مسٌّ من جمالية هولدرلين حيث التوترُ موئلٌ يفضي إلى الدقة.

بيشر وآخرين، كان يوجد هناك تيار له طابع إبداعي، ربما كان مٌسيّسا، إلا أنه لم يُصب بالعدوى الإيديولوجية، وبقي في مجمله محافظا على نقائه الإبداعي، سواء كان ذلك في مجال القصة أو الشعر أو الرسم، أومجالات الإبداع الأخرى. وكان يوهانيس بوبروفسكي (1917-1965) في كل الأحوال واحدا من الشعراء الذين لم يدخلوا سوق المزايدات الإيديولوجية، بل أنصرف لعمله الإبداعي، رغم المخاطر المحيطة به والتي دفعته في النهاية للعمل كمحرر في دار النشر التابعة لـ "الإتحاد المسيحي الديمقراطي" لضمان لقمة العيش من جهة، ولتخفيف الضغوط السياسية عليه كشاعر من جهة أخرى، إذ كان التلحّف بهذا الغطاء يضمن شيئا من الحرية الإبداعية ومجالات أكبر نسبيا للتحرك في حدود الممكن، على حافة الهاوية. لذا فانه ليس من المستغرب أن تتم طباعة أغلب أعمال بوبروفسكي في البداية في ألمانيا الغربية، ينطبق هذا على أعماله الشعرية والروائية بنفس الدرجة، علما بأنه كان قد نشر أول قصائده في سنة 1955 في مجلة Sinn und Form التي كان يشرف عليها في حينه الشاعر المعروف بيتر هوخل ( 1903-1981) – غادر "المانيا الديمقراطية في سنة 1971 بعد أن تعرض للعديد من الضغوط السياسية والأبداعية بسبب نهجه المتفتح في إدارة المجلة المذكورة وفي قيادة أكاديمية الفنون الألمانية- و لا شك بأن مصير بوبروفسكي لم يكن ليختلف عن مصير غيره من أدباء تلك المرحلة الذين وجدوا أنفسهم رغم قناعاتهم اليسارية مضطرين لمغادرة "المانيا الديمقراطية"، لولا تعففه عن الخوض بشكل مباشر في الشأن السياسي، إضافة الى صعوبة تفسير كتاباته من خلال نهج سياسي، بعيدا عن العملية الإبداعية. العملية الإبداعية تبدأ في اللغة، لتغوص في الأبعاد المبهمة للزمان والمكان، في بحث لا يتوقف عن جذور الغيبي والميتافيزيقي في الحجر، والأنهار والأشجار، في عالم لا يكف عن التحولات، هو العالم الذي ولد فيه بوبروفسكي، عالم "بروتسا" – بروسيا لاحقا -، حيث الإختلاط العرقي في أعلى درجاته، فهناك الألماني والبولوني والليتواني، كل ترك بصماته على هذه الأرض التي يعيد لها الشاعر أسمها القديم "سارماتسيا"، محررا إياها من كافة أشكال الإختناق القومي بجذوره القائمة على أساس حروب القرن الماضي (الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية). يجد القاريء نفسه مقابل هذا العالم أثناء تصفح أعمال الشاعر، سواء الشعرية منها أو الروائية والقصصية. في مجموعته الشعرية الأولى "أزمنة سارماتسية" -1961- يأخذنا الشاعر الى أماكنه ومحطات أحلامه في مناطق تأسس فيها وعيه الأول، في تلك المدينة المحاطة بالغابات، على ضفة نهر الـ"ميميل" الذي مازال سكان المنطقة يسمونه "الجدول". وينطبق ذلك كذلك على ديوانه الثاني "أرضُ ظلالٍ جداول" وعلى روايته الأهم "طاحونة ليفين، 34 جملة عن جدي" – 1964-. وتحمل أعمال بوبروفسكي في طياتها العديد من المفاجآت اللغوية التي يرجعها بعض النقاد الى معرفته باللغتين اللتوانية والبولونية، حيث نقل منها ما تحمله ذاكرته الى اللغة الألمانية، في صور شعرية غريبة، جعلت منه واحدا من أعلام الحداثة في الأدب الألماني المعاصر. وفي النهاية مازال ما قاله حول الدور الإجتماعي للأدب محافظا على صحته لحد يومنا هذا: "الأدب لا سلطة له."

1- زهرة البيلسان

ها هو ذا
بابل، اسحاق.
يقول: أثناءَ المجزرة،
حين كنتُ طفلا،
قـَطعوا رأسَ حمامتي.

بيوتٌ في شارع خشبي،
أسوارُها يـَنمو عليها البـَيـْلسان،
عـَتـَباتـُها نظيفة ومُلـّمعة
السـُلـّم الصغير، أتـَذ ْكـُرْ،
كانت عليهِ لطخة ُ دَمٍ.

تقولون: لننسى!
هناك جيلٌ سيأتي،
ضحكاته مثل أ ُجّمات البيلسان.

البيلسان يـَذبلُ
بسبب نِسيـانـكم.

2- يوهان سيباستيان باخ

رجلٌ غيرُ مريح ٍ،
مزاجُه مثل موسيقيّ المدينة، يَحملُ سيفا
وله مـيول عاطفية
(يُمكن تحقيقها، بلا شك).
مثل طِفلٍ يفرحُ لخـَرير المياه،
ويتابعُ سير الأنهار الدائم التأثير.
نهرُ الأردن الأجْرد
والفراتُ المُحمـّل بالسماوات يـُرحبان به.

رأى مضيقَ البحر –
هناك من يدور
حول نيران ٍ غير مرئية،
يـُنادي الكواكبَ
بصوتٍ يَحْمل عذابا قديما.

أحيانا،
في معزوفاته في كـُويتن،
وسَط أبهةِ سنوات لايبزغ يطفو هذا
على السطح. في النهاية، لم يعدْ يسْمَع
روحَ العَنـْصَرة
تحلـّق مع ضجيج الأبواق (على أرتفاع 16 مترا).

يَسْبقه أنينُ الناي،
إذ يقفَ أمام بيته العتيق،
متعبا من الكتابة،
محاطا برياح عاصفة، ناسيا
الأرض.

3- تجربة

إشارات،
صليبٌ وسمكة ٌ
مخطوطة على جدار الكهف.

موكبُ الرجال
يـَغيبُ في التربة.

رسمه مستوحاة من قصائده بريشة كاثرين برومسه

الأرض ترتفع،
أعشابٌ ضاربة إلى الخضرة
تنمو وسط الأحراش.

عند الصدر
يتوقفُ النهرُ عن الجريان.
صوت يأتي من الرمال:
اِفتحْ جَسَدكَ،
فأنا غير قادر على اختراقه،
موتاكَ يعومون في مياهي.

4- تقرير

بايلا غيلبلونغ،
هَربتْ
أثناء نـَقـْلها من الغيتو
في وارشو،
تجوّلت في الغابات، مسلحة ً.
أ ُعْتـُقِلتْ في بريست- ليتوفسك،
وهي ترتدي معطفا عسكريا (بولونيا)،
اسْتجوبها ضباط ٌ ألمان .
في الصورة:
ضباط ٌ فتيان في حُلل أنيقة،
وجوههم صافية،
وقاماتـُهم مستقيمة.

5- اغتراب

زمنٌ
يتنقلُ
يرتدي أحيانا
ملابسَ من السعادة
أو من الخيبة.

الخائبُ يتحدثُ بصوت متقطع
يشبه اللقـْلقة. اللقالقُ
تـَتـَجَنبه:
ريشُه أسودٌ وأشجاره ظلالٌ، يـَسْكـُنها
الليلُ. خـُطاه
تنتهي في الهواء.

6- قصب البردي

بأجنحةٍ من مطر ٍ
تـُحـَلـّقُ، صارخة ً،
الرياحُ المَطـَرية.
حمامة ٌ زرقاء
نَشرَت جناحيها
عِبر الغابة.
جميل هو الضوء، إذ يتسرب
في حديد السرخس المنكسر
رأسُه رأسُ تـُدْرُجٍ.

أيها النـَفـَس،
ها أنا أرْسلك الى الخارج،
اِبحثْ عن سقف يحميك،
تـَسَلـّلْ من خلال نافذةٍ،
انظرْ الى نفسِك في المرآة البيضاء،
اسْتـَد ِرْ بلا ضجيج،
سيفا أخضر.

7- إلى كلوبستوك
(فريدريش غوتليب كلوبستوك 1724-1803 شاعر ألماني)

لو رَفـَضْتُ ما هو واقع
فهذا ما سيكون: أقول النهرَ والغابة َ.
غير أن الظلامَ لاصقٌ بأحاسيسي
صوتَ الطائرِ المتعجل ِ،
سهمَ النور حولَ المنحدر
وخريرَ المياه.
كيفَ أنـْطُق أسمَك،
وحظي قليلٌ من المجدِ،
حَمَلـْتُ كلّ ما مَررْتُ به،
أساطيرَ محاطة ً بالظلال ِ تحكي عن الذنوبِ
والتكفير ِعنها:
ومثل ثقتي بما تفعل،
أثق بلغة المَنسيين،
وأنـْطقُ كلماتهم بلا مجاملة صوبَ الشتاء،
من وراء القصب.

8- جواب

عِبرَ السور أنتَ تـَتـَحدث:
الأشجارُ ترمي ما يـُثـْقِلها،
الثلجَ.

حتى غصونُ البيلسان المخلوعة
تـَحْمِلُ غناءَ الشحارير
وصياح الصراصير.
صوتُ العشب
يَحفرُ ثقوبا في الجدار.
طيور السنونو تحلق صعودا
عَكـْسَ المطر،
أبراجَ نجوم ٍ تمضي نحو السماء
على عجل في الصقيع.

الذين يدفنوني
تحت الجذور
يسمعون:
هو يتحدث مع التراب الذي يملأ فمه-
هكذا سينطق التراب،
وتصرخ الحجارة،
والمياه تحلّق.

ترجمة صالح كاظم

9- أن يُسمّى على الدوام

الشجرة، الطير وهو يطير،
الصخرة الضاربة إلى الحمرة، حيث يتدفق
المجرى، اخضر، والسمكة
في الدخان الأبيض، عندما ترتفع العتمة
فوق الغابات.

أن تَرسم، أن تـُلوّن،
ما هذا سوى لعبة، أخشى
أن لا تنتهي بالشكل
المراد.

ومَن هذا الذي سيعلّمني
ما قد نسيتُه: نوم
الحجر، نوم
الطيور وهي تطير، نوم
الاشجار، هل يستمر،
في العتمة، كلامها؟

لو كان ثمـّة الهٌ
ومتجسد،
واستطاع أن يناديني، لكنت
قد تقدمت، لكنت قد
تمهّلت قليلاً.

10- لغة

الشجرة
أعظم من الليل
مع نسيم بحيرات الوديان
مع الوشوشة عبر
السكون.

الاحجار
تحت القدم
اعراق مشعشعة
منذ أمدٍ في الغبار
إلى الابد.

لغة
منهوكة
بفمها المرهق
في الطريق اللانهائية
إلى بيت الجار.

11- أيقونات

ابراجٌ، مقوَّسة، مسوَّرة
بالصلبان، حمراء. تتنفسُ
السماءُ الظلمة، يقف
يوحنا فوق التل، المدينة
تِلقاءَ النهر. يراقب
البحرَ آتياً باخشاب،
بمجاذيف، بسمكة مُحرشَفة، الغابةَ
تلقي بنفسها في الرمل.
في مقدمة الريح
ينطلق الأميرُ، ملوّحاً
بمشاعلَ في يديه، ينثرُ
نيراناً صامتة
فوق سهوبٍ مترامية الأطراف.

12- عروس الماء

يتصاعد
من ظلالها

قصائد حب بريشة الفرنسية سوزان نيكل

الكلامُ اللا ملفوظ.
من الأوراق
ذراعٌ مقوَّسة.

إنك تجتاز جسرا.
تحمل نوّارا فوق الفم
تتستّر قرب الأبراج
ترمي الحصى الوثّاب بعيدا.

لا أملك نارا
في القَشِّ تنام العصافير
مسموعة ً تعيش في السطح
الأجنحة ُ والزقزقة.

أيا نفْثةَ
احمليني.
أيا عتمةَ
كلّمي اليدين.
قرقرة الماء تبني
في الصمت المريّش عشّـا.
البيوتُ تحت الماء
تُبقي الأبوابَ مفتوحة ً،
ثمة نوافذ، ويبرز سلـّمٌ من حجر.

13 عندما الغرف

عندما تُهجرُ الغرفُ
حيث توجدُ الأجوبة ُ، عندما
الجدرانُ والممراتُ الضيقة تنهار، تطيرُ الظلالُ
من الأشجار، عندما يُهجرُ العشبُ
تحت الأقدام
تطأ النعالُ البيضاءُ الريحَ

عـُلـّـيقة ُ الشوك تَشتعلُ
أسمَعُ صوتـَها
حيث لم يكن هناك سؤال،
المياه تجري، ولا أظمأُ.

14- في المرآة الفارغة

في مياه الضوء،
حاجب ضد حاجب،
ما يغطي الجذوع
يطلع فوق سِنامك
أدعو البرق للنزول
وأنت أيها الرماد، تأتي نِدفَ رمادٍ
من برق ٍ بعيد
تسقطُ منك، عباءتُك

كنتُ على منْكـبِـك
العِـرْقُ الذي على رقبتك
اقتحمَ فمي
لن تغرقَ
سأحملكَ
بذراعي، أرفعك
عبر اليمً
سِـرْ أمامي

ذات يوم: سآتيك
بالشراب ثانية، سأطير
باتجاه السموات، ذات يوم؛ لكن
ساهبط، ستسمعني
اتنفّسُ، ستسمَعكَ الحقولُ
فوق الرياح، نورٌ أبيضُ
سيتكلمُ معك.

15- الصياد الليلي

في الأغصان الجميلة
لايزالُ
الصمتُ يعتلجُ
نور
ذو أيد
على جدارٍ.
يندلقُ الرملُ من الجذور
امض أيّها الرمل،
احمرَ في الماء
اذهبْ تتَـبّـعْ الأصوات
اذهبْ إلى العتمة
انشرْ الشبكة في الفجر

الأصوات تغني شجرةَ الحور..
خذ أذنيك
إلى مكان أمين
إلى الأغصان الجميلة
الأصوات تغني:
ما هو ميّتٌ ميتٌ.

ترجمة عبدالقادر الجنابي

نازك الملائكة ولقيطها: قصيدة النثر

GMT 12:30:00 2007 الخميس 21 يونيو

عبدالقادر الجنابي
–>عبدالقادر الجنابي


إذاً رحلت نازك الملائكة إلى العالم الآخر… تاركة الأحياء محدقين في ما مضى، في شيء من سيرتنا الشعرية. رغم كل ما تم من تشكيك في أنها ليست أول من كتب قصيدة وفق معايير الشعر الحر، وأن هناك الكثير من التجارب الفردية قبلها، تبقى نازك الملائكة هي المؤسس الأول للشعر الحر، لأنها أول من نقل تجارب إيجاد شكل شعري متحرر من بعض القيود التي لم يعد لها معنى، من حيز التجريب غير الواعي إلى فضاء التجريب الواعي والمقصود، وتسميته وبالتالي فتح مواجهة طويلة مع المعطيات. والحبر لايزال يسيل

مقتبس من حياة الشاعرة الراحلة نازك الملائكة

في هذا الأمر. وهذا عين ما حصل عند ظهور الشعر الحر في فرنسا. فرغم أن رامبو كان أول من كتب قصيدتين حرتين بسنوات قبل ظهور الاسم، وأن لافورغ نشر قصائد حرة بنفس الفترة التي نشر غوستاف كان، فإن غوستاف كان هو الذي يعتبر في نظر الجميع مؤسس الشعر الحر ومنظره: فالقصدية هي الأساس في كل شيء. ولواضع التسمية دوره المؤسس وبالتالي المنظر. فالمسألة إذن ليست هنا. فمكانها الريادي هذا سيبقى في صلب الشمس، وسوف لن تُناقش أعمالها إلا من خلال هذه الأشعة التي سلطتها نازك الملائكة في عز شبابها… فما كتبت من شعر فيما بعد بقي في إطار الكلاسيكية لا يصمد أمام تجاربها الأولى.
لكنها كشاعرة تربت في بيت محافظ، وكامرأة في وسط أدبي ذكوري، لم يسمح لها الانفتاح التجريبي المهدد للتراث الذي فرضته أوضاع خمسينات القرن الماضي، إلا أن ترتد، أن تتقوقع في ما أجترحته من تجديد وأن تتوقف عند الأسس الأولى (عدم الالتزام بعدد ثابت من التفعيلات، تحويل البيت من شطرين إلى سطر، مزج تفعيلات بحر بتفعيلات بحر آخر، الوقفة حيث يريد الشاعر حتى نهاية المعنى، نسف نظام الروي وجعل الصوت متنقلا، عدم خضوع الموسيقى للوزن وإنما لحالة الشاعر النفسية، التدفق)، جاعلة من هذه الأسس الأولى قيودا خليلية جديدة، وليس نقاط انطلاق نحو حرية أكبر، بل أصبحت خائفة حتى مما قامت به من كسر لبعض القيود، إذ كتبت في "قضايا معاصرة" قائلة: … يهمنا أن نشير إلى أن حركة الشعر الحر، بصورتها الحقة الصافية، ليست دعوة لنبذ الأبحر الشطرية نبذا تاما، ولا هي تهدف إلى أن تقضي على أوزان الخليل وتحل محلها". إن رواد الشعر الحر باللغة الانجليزية كانوا لا يختلفون عن مقاربة نازك الملائكة، فهم أيضا كوليم كارلوس وليامز وباوند واليوت، وقفوا ضد ما أخذ ينتشر باسم "الشعر الحر" في اللغة الانجليزية، بينما هو في نظرهم شعر نثري.
لكن هذا ما حصل. ذلك أن "كل ميل"، كما وضحت هي في نفس الفصل، "إلى تحكيم الشكل في المعنى يغيظ الشاعر المعاصر ويتحداه". وبالفعل شَعر الشعراء الجدد وعلى رأسهم توفيق صايغ، ثم محمد الماغوط وأنسي الحاج، بضرورة التوسع في إمكانيات الشعر الحر وكسر كل قيد سواء كان عروضيا بالمعنى الكلاسيكي للكلمة أو بقياسات شعر التفعيلة حتى طفقوا "ينبذون الأوزان القديمة نبذا تاما"… وهكذا وضعت الملائكة من خلال تحرير الأوزان وتليينها، بذرة لقيط سيكون له اسم مستعار: "قصيدة نثر".

لم تنتبه نازك الملائكة إلى أن الشعر الحر الذي أرادت تعميمه يميل أكثر إلى ما سمي بالفرنسية "الشعر المُحرَّر" Vers libérés (أو المتحلل من بعض القيود الوزنية دون أن يمس العروض الفرنسي)، منه إلى "الشعر الحر" Vers libre الداعي إلى عدم الالتزام بعدد ثابت من المقاطع (وبالتالي التفاعيل) في البيت… وربما فقط في هذه النقطة، يقترب منظور تحرير الوزن لدى الملائكة من مفهوم "الشعر الحر" بمعناه الفرنسي…
لم تستطع نازك الملائكة تجاوز ذهنيتها المحافظة والارتدادية، وكأنها ستخسر شيئا لو حاولت ان تقف إلى جانب هذا اللقيط، وأن تعتبره أبنها الشرعي. وها هو وليد تمردها هذا ابن ضال، لا يريد حتى الاعتراف بأمه التي أنجبته. ورُحب به دون أن يتابع أحد شجرة أصله، نسبه وفصله.. وهكذا سادت الفوضى التي كانت تخشاها نازك الملائكة، ووضعت كتابا كاملا تحذر فيه منها، ولم يُجد نفعا! ف
للتاريخ دوما مقلبٌ: إن ما كانت تخشى وقوعه، أنتج تاريخا عريضا، بل شبحا ظل يطاردها حتى الأمس.

بودلير وويتمن وما بينهما من بون

GMT 17:30:00 2007 الجمعة 15 يونيو

عبدالقادر الجنابي


هذا هو الشعر الحر: الحلقة الثانية

الحلقة هذه مهداة إلى الشاعر الصديق أمجد ناصر

عبدالقادر الجنابي من باريس: هناك تشويش كبير موجود في الوسط الأدبي العربي حول علاقة ويتمَن ببودلير، وأن بودلير تأثر بويتمَن… واحد أسباب رواج هذا التشويش، بل سوء الفهم هذا، هو المقالات النقدية الموضوعة حول قضية "الشعر الحر".. ومما يؤسف له هو أن عددا من المترجمين والنقاد غالبا ما يعتمدون على مقالات وكتب كتبها أجانب غير مختصين يلقون أحيانا الكلام على عواهنه، دون تمحيص وبحث جدي في المصادر الأولى. أما الكتب التي يمكن فعلا أن تخفف من ثقل الجهل العربي، فإن مصيرها هو التعتيم والنسيان، لأنها في حاجة إلى مترجمين لهم إحساس بالمسؤولية بقدر ما لديهم حب استطلاع.
هنا ملاحظات لتبديد سوء الفهم الرائج هذا بصدد مَن أثر على مَن: بودلير على ويتمَن أم ويتمَن على بودلير… أو بالأحرى لا هذا على ذاك ولا ذاك على هذا؛ ملاحظات استطعت

شاعر الشسوع الأمريكي وشاعر الكأبة الباريسية

استخلاصها من قراءاتي لدراسات عديدة وبالأخص كتابين اكاديميين يتناولان بالتفصيل تشعبات موضوعنا هذا، الأول هو كتاب الباحثة الأمريكية بيتسي ايركيلا Walt Whitman Among The French "ويتمَن في وسط الفرنسيين" (1980) التي تناولت فيه المؤثرات الفرنسية في أدب والت ويتمَن وتأثير ويتمَن نفسه فيما بعد على الأدب الفرنسي. ويعتبر كتابُها من أكثر البحوث صرامة ودقة في موضوع العلاقة بين ويتمن وفرنسا، وقد أجرت في الكتاب جردا شاملا لكل ما كُتب عن ويتمن وما تُرجم له الى الفرنسية منذ عام 1861 وحتى 1972، مع تبيان تأثير شعر ويتمن على شعراء فرنسيين خلال قرن.
الكتاب الثاني هو The Evolution Of Walt Whitman "تطور والت ويتمن" بقلم روجيه أسيلينو، الذي صدر في منتصف خمسينات القرن الماضي بجزأين. وهذا الكتاب يعتبر عمدة المصادر حول سيرة ويتمن وديوانه "أوراق العشب"، فأسيلينو لم يترك ورقة صغيرة أو رسالة ضائعة أو مسودة من مئات المسودات، أو دفتر يوميات من عشرات الدفاتر… دون أن يراجعها ويبني اعتبارا من هذه المراجعة نتائج بحثه القيم. كتاب زاخر بالتفاصيل المتعلقة بتكوين ديوان "أوراق العشب". وقد توخى روجيه أسيلينو الأسلوب الموضوعي حيث القدرة على تعيين مسافة بينه كدارس وبين ويتمن كموضوع دراسة: مسافة لا تختلط فيها مشاعر الإعجاب الممكنة في كثير من الأحيان، بنابل الوقائع المعطاة. فهو يستقصي معلومة اثر معلومة دون أن يعطي أحكاما قاطعة، بل يفتح طريقا شاسعا من الاستنتاجات الممكنة لكن ضمن ما متوفر من وثائق إثبات.

1- كان والت ويتمَن ( 1816 – 1892) أكثر شعراء أمريكا تأثرا بفلسفة التنوير الفرنسية، وتراثها النهضوي المترجم إلى الانجليزية، إذ لم تكن لويتمَن سوى معرفة جد بسيطة باللغة الفرنسية. وقد برهنت بيتسي ايركيلا على أن والت ويتمَن كان متأثرا جدا بكتاب الفيلسوف الفرنسي كونستانتان فولني (1757-1820)، "الأطلال أو تأملات في تعاقب الامبراطوريات" الذي يدعو فيه فولني إلى نظام عالمي عادل ينطلق من إيمان فلسفة التنوير بالعقل، والعلم، والحضارة والتقدم. ومن المعروف أن ويتمَن كان يدون في دفتر يومياته بعض المقاطع التي تعجبه لكتاب كبار، ثم يحورها أبياتا في قصائده، ومنها هذا المقطع من "الأطلال":
"نِف (ويعني الوجود)، شكل بشري بلباسٍ أزرقَ غامق يحمل في يد واحدة صولجانا وصاجا معدنيا (الزودياك) وعلى رأسه قبعة من الريش…".
في قصيدته المشهورة "تحية إلى العالم"، كتب ويتمَن الصورة التالية:
"أرى نِف، يزدهر، لابسا الأزرق
وعلى رأسه تاج من الريش".
وهناك أمثلة قوية جدا في دراسة بيتسي ايركيلا تكشف عن تأثر ويتمَن بـ"أطلال" الفيلسوف فولني. والتأثيرات الفرنسية الرومانتيكية والتنويرية هذه جوهرية في صقل الطابع
الديمقراطي لـ"أوراق العشب" والميل النثري الذي جعل البيت الشعري أطول من المعتاد فتجاوز ويتمن قاعدة العدد الثابت للمقاطع والنبر والتفعيلات. والبرهان أن ويتمن ظل طوال حياته ينقح ديوانه، حد حذف جمل كاملة من بعض أشعاره، كان يراها نثرية وشرحية كهذا البيت:
"وسأريكم أنه ليس ثمة نقص في الذكر والأنثى أو في الأرض، أو في الحاضر ولن يكون في المستقبل."

اصبحت في طبعة عام 1867 هكذا:
"وسأريكم أنه ليس ثمة نقص في الحاضر ولن يكون في المستقبل". (1)

سنفصل دور النثر على شعر ويتمن في حلقات أخرى عندما سنتناول ظهور "الشعر الحر".

وهناك دراستان قيمتان حول تأثر ويتمن بالمؤرخ الفرنسي جول ميشيليه: "ويتمن وميشيليه: مقاطع متشتبهة" للأكاديمية أدلين كناب، و"ميشليه وويتمن" لمؤلف "دليل القارئ الى والت ويتمن"غاي ويلسن الين. وفي هاتين الدراستين نقرأ مقارنة خارقة بين قصائد لويتمن وكتابات المؤرخ الفرنسي الكبير جول ميشيليه، وكيف ان مقاطع كاملة من كتابات ميشليه حاكاها شعريا ويتمن في قصائده. فمثلا "الطير" الرامز الى الحرية والاتساع في شعر ويتمن، هي عين الرمز الموجود في كتاب "الطير" لجول ميشيليه. كما أسيلينو يبين كيف ويتمن تأثر بكتار توماس كارليل: "الأبطال" وخصوصا بسيرة محمد الذي استقى ويتمن منها مفهوم "الشاعر النبي" وأن العالم في حاجة إلى كتاب مقدس. غير أن هناك نقادا أجروا مقارنات أخرى بين شعر والت ويتمن وكتابات المؤرخين والروائيين الفرنسيين، فخرجوا بنتائج تكاد تتهم ويتمن بـ"الانتحال". وقد ذهبت الناقدة ايستر شيفر إلى مدى أبعد بقولها "إن المصدر الأساسي لـ"أوراق العشب" نجده في الفصل الختامي من رواية فرنسية هي رواية جورج صاند " La Countess de Ruodolstadt"… وقد حاولت ببراهين وجمل ومفاهيم متواجدة في العملين لبرهنة نتائجها.

المعلومات التاريخية لا تفيد بأي رابط بين ويتمن وبودلير:
2- أول ذكر لاسم والت ويتمَن، في اللغة الفرنسية، كان في مقالة مخصصة عنه كتبها الناقد لويس اتيين تحت عنوان: "والت ويتمَن، الشاعر، الفيلسوف والمشاكس" ونشرته "المجلة الأوروبية" نوفمبر 1861. ومن سوء طالع ويتمَن أن الناقد لويس اتيين هذا كان يضمر له شرا، فكتب مقالته من موقف معاد مقتبسا من أشعار ويتمَن اقتباسات خارج سياقها ليسند وجهة نظره المعادية فقدم ويتمَن للقارئ الفرنسي آنذاك كمجرد مشاكس ديمقراطي وإباحي، وليس كصاحب إضافة شعرية جديدة. والأنكى أن هذه المقالة كتبت في ظل الامبراطورية الفرنسية، أي في ظل ظروف رجعية معادية لكل فكر مستوحى من أفكار الثورة الفرنسية ومثلها التنويرية. وهذا يعني أن هذا التعريف الأول بويتمَن مسئول عن التعتيم الذي لاقاه ويتمَن الشاعر آنذاك، فشاع اسم ويتمَن فقط في الأوساط الراديكالية وليس في الوسط الشعري. وكان على ويتمن أن ينتظر 11 عاما حتى يظهر هجوم ثان غير أن له هذه المرة تأثيرا ايجابيا على سمعة والت ويتمن الشاعر وكنبرة شعرية لم يُعهد لها من قبل، ستلعب الترجمات الفرنسية لقصائده دورا كبير في ظهور "الشعر الحر". ففي اول حزيران من عام 1872،

الطبعة الأولى من أزهار الشر (1857)

نشرت "مجلة العالمين" المشهورة مقالة سلبية بقلم تيريز بيتزون تحت عنوان: "شاعر امريكي – والت ويتمَن"، تصدى لها ناقد جريء وعادل اسمه ايميل بليمون، كان أصلا يحضر ملفا عن ويتمَن. وسرعان ما نشر، بعد اسبوع من ظهور مقالة تيريز بيتزون، سلسلة مقالات في مجلة "النهضة الأدبية والفنية" (7 حزيران، و11 حزيران و12 تموز من عام 1872)، دفاعا عن ويتمن كشاعر. والمقالات هذه كان لها هدف سام واحد هو تقديم ويتمَن كاكتشاف شعري عظيم. وبالفعل إن مقالات بيلمون الثلاثة هذه يعود لها فضل دخول شعر ويتمَن مرحلة التأثير المباشر على الشعر الفرنسي.

3- ليست هناك وثيقة واحدة تدل على أن شارل بودلير (1821 – 1867) قد قرأ ويتمَن، أو اطلع على شعره. ربما قرأ مقال لويس اتيين، فلم يهتم بويتمَن "الديمقراطي المشاكس"، فإن نعوتا سياسية كهذه لا قيمة لها في نظر بودلير. ناهيك أن اجتراحات بودلير الشعرية على صعيد قصيدة النثر كانت معروفة منذ عام 1854، وعلى صعيد الإيقاع الديناميكي والجديد دون أي خلل وزني، فإن 18 قصيدة من "أزهار الشر" كانت قد ظهرت أول مرة تحت هذا العنوان في عدد حزيران 1855 من "مجلة العالمين" ، أي بشهر واحد قبل صدور "أوراق العشب" (مطلع تموز 1855). أضف إلى هذا أن ويتمن لم يكن معروفا كشاعر قبل صدور ديوانه، بقدر ما كان معروفا مجرد كاتب عمود في صحيفة "ديلي بروكلين ايغل" الذي اصبح محررا فيها. والفرق بين ديوانه ومقالاته العادية، أثار تساؤلا فيما إذا كان نفس الشخص الذي كتب هذه المقالات وديوان "أوراق العشب".
ولعلّ معترضا يقول إن ويتمن قرأ بودلير. والبرهان على هذا هو وجود فقرة لبودلير عن "المرض بالجمال" اقتبسها ويتمَن في مقالته "شعر المستقبل" (1872). الجواب هو أن ويتمّن لم يقتبسها مباشرة من كتابات بودلير، وإنما وجدها مذكورة مترجمة في مقالة تعريفية للناقد الفرنسي الكبير سان بوف نشرتها "المجلة الأمريكية الشمالية" (كانون الثاني 1869)، ناهيك أن الاطلاع المبتسر هذا على فكر بودلير، جاء سنتين بعد موت بودلير و14 سنة بعد صدور "أوراق العشب".
بقيت معلومة واحدة يستطيع رجال الإنشاء تشييد خللها قصور من رمال التأثيرات والانتحال. والمعلومة هذه ذكرها أسيلينو لكن في سياق تحليلي لا علاقة لها بالتأثير أو الأخذ، وهي أن ويتمَن فكر بعناوين أخرى ("دموع الشر"، "قطرات الشر"، "آيات الشر".. الخ) لعنوان Calamus "قصب الـذّريرة" (نبات كالبردي ينبت في الحياض والمياه) الذي وضعه لمجموعة قصائد أضافها 1860. وهذا ما تكشفه مخطوطة ويتمَن نفسه، حيث شطب على كل هذه العناوين مستقرا رأيه على " قصب الذريرة ". هنا يجب أن أتوسع في جانب جوهري من حياة ويتمن وشعره، لكي نفهم، أولا، فرقا جوهريا بين ويتمن وبودلير، وثانيا قصة العناوين المقترحة.
إن أول من التفت إلى أن ويتمن "مَثلي" (شاذ جنسيا) هو العلامة جي إي سيموندس، وذلك بعد أن قرأ مجموعة القصائد، المنشورة في "أوراق العشب"، تحت عنوان " قصب الذريرة ". وقد بعث برسالة إلى ويتمّن يسأله إذا كان فعلا مِثليا. اضطرب ويتمن إزاء سؤال كهذا، فغضب ونفى هذا بلغة حادة بل أكد في جوابه أنه ضد "المِثلية"، مضيفا، كبرهان، أن لديه ستة أطفال غير شرعيين اثنان منهم توفيا.
وفق عدد من الدراسين إن جواب ويتمن غاضب ومضطرب يؤكد عكس ما يدعيه، فإن نفيه لهذا ليس سوى خوف من أن يتعرض إلى هجوم أخلاقي يفسد مشروعه الشعري. وقد حاول كل الدارسين أن يعثروا على دليل واحد يؤكد أن لديه طفلا واحدا غير شرعي، فباءت كل محاولاتهم بالفشل، وإن كل ما حصلوا عليه من أدلة، خصوصا من اخيه وأصدقائه

اقرأ أيضا:

قصيدتان لبودلير في الفن الشعري

والت ويتمَن: كلمة من البحر

وأقاربه، حول هذا الموضوع تثبت إن ويتمن كان يبتعد كثيرا عن النساء، وتفيد أن لويتمن ميولا مِثلية. وقد برهن أسيلينوا في الجزء الثاني من كتابه حول قضية الجنس في حياة ويتمن وشعره، على أن ويتمن كان يضيف في قصائده ".. والمرأة" دون أي معنى فقط للتمويه. وما قصة الأطفال غير الشرعيين سوى كذبة بيضاء ليبعد شبهات المِثلية حوله.. ناهيك أن العنوان "قصب الذريرة" يوحي بالعضو الذكوري (من مميزات هذا النبات أن له عرقا ناتئا يشبه القضيب)، إذ مفردة Calamus مرتبطة بكلمة معروفة بمعنى العضو الذكري في الأساطير اليونانية Kalamus ، ولم يستخدم الكلمة المعروفة لـ"قصب الذريرة" sweet flag.
ومن جهة أخرى، هناك أسطر واضحة وإشارات بينة في هذه القصائد إلى المِثلية الجنسية، وأن ويتمن استخدم كثيرا كلمة adhesivnees ليس بالمعنى الشائع "القدرة على عقد صداقات"، وإنما بالمعنى الذي هو شرحه في حوار معه: "ارتباط شخصي بين الرجال أقوى من الصداقة العادية". كما ان هناك الرسائل التي كان يوجهها إلى أصدقاء شباب عاديين أميين تعرف عليهم كتوم سوير الذي هرب ولم يجب على رسائل ويتمن المليئة بجمل يستشف منها رغبات مثلية. والشاب ستافورد الذي تلقى ذات يوم رسالة من ويتمن جاء فيها: "… أريد أن أراك يا بني العزيز، ولا أستطيع الانتظار أكثر… كم أتمنى أن أكون معك في هذه اللحظة أسفل النهير، وفي مكان بعيد في الغابات". التشديد موجود في الرسالة نفسها. على أن معظم الدارسين اجمعوا على أن مثلية ويتمن بقيت في نطاق المكبوت ولم تتحقق وليس هناك دليل واحد أنه ارتكب فعلا شاذا جنسيا. وهنا يأتي تحليل أسيلينوا القوي وهو أن ويتمن كان يتألم من هذا الكبت وقد ساعدته الكتابة الشعرية على التخفيف من آلامه، وبالتالي فما "أزهار العشب"، في نظر أسيلينو، سوى "أزهار شر" مجازيا ومن هنا فكر ويتمن أن يستبدل "قصب الذريرة" بعناوين أخرى تعبر عن حالته المؤلمة: "قطرات الشر"، "دموع الشر"، "آيات الشر".. الخ ولا علاقة لها بانتحال أو بتأثير قط.. أما بودلير (2) فكان معروفا للجميع أنه منغمس td الفجور ومعhشرة العاهرات وشارب خمور ومدخنا للحشيش، فحياته الداندية واضحة في مقالاته وشعره وضوح الشمس التي كان يتغنى بها ويتمن على الجانب الآخر من الكون. (3)

البون

إلى هنا تنتهي كل معلومات التقارب – التفارق التي يمكن أن تذكر في أي دراسة عن والت ويتمَن وليس عن بودلير. والآن، لنحاول من زاوية أخرى تبيان استحالة وجود أي تأثير لهذا على ذاك. فالفروق بينهما على صعيد المضمون وبالتالي على صعيد الشكل، جد واسعة وعديدة جدا:
1- إذا كان بودلير يرى الشاعر ساحرا والشعر نوعا من السحر، فإن ويتمن كان يرى الشاعر نبيا والشعر نوعا من الدين. وبينما أقصى بودلير "مذهب العلم" من عالم الفن

قصب الذريرة: Calamus

مشددا على الاختلاف الجوهري بين المادي والروحي، اعتبر ويتمَن "العلم" كثيمة أساسية لقصائده. وهناك دراسات عديدة ظهرت في مطلع القرن العشرين تحاول ان تعطي مسحة نبوية لتحول ويتمان فجأة من صحافي إلى شاعر عبقري، وكأن هناك نموا مفاجئا حصل في حياة ويتمن عامل النجارة، بل وكأن وحيا نزل عليه من السماء، فكتب "أوراق العشب" (انظر الفصل الثاني من كتاب أسيلينو). سيرة بودلير وشعره نقيض لكل هذه الحكايات.

2- مع إنهما يعتقدان بأن الشعر فنا مُلهَما، إلا أن بودلير أعطى دورا أكبر للمهارة الفنية والحرفية جاعلا من الإلهام تحفة شعرية وهكذا، حسب بودلير، يجب أن يمر كل دفق عفوي في نظام مغلق من المهارة الفنية العليا، بينما ويتمَن كان يريد أن يأتي هذا الدفق "شكلا غير مفروض من الخارج، وإنما نام من الداخل" من دون تشذيب. فإن "ما يمس القلب هو أكثر أهمية مما يُمّم شطر الأذن"، كما وضح ويتمن نفسه. لكنه تأسف في نهاية حياته لأنه لم يعر أهمية للأسلوب والتنقيح. وفي الحقيقة أن ويتمن تناول (منذ صدور الطبعة الأولى وحتى أخر لحظة من حياته)، ديوانه صقلا وتنقيحا وحذفا خصوصا لمئات النعوت، وحروف جر كـ"و"، "أو"، وبالأخص كلمة "أقسمُ" المكررة ببغائيا عشرات المرات. بل هناك أبيات كاملة حذفها، وقد انتبه أيضا إلى ركاكة وغباوة بعض العناوين مثل: "قصيدة والت ويتمن، الديمقراطي"، الذي تغير في طبعة 1881 إلى عنوان دقيق ومعبر شعريا عن مضمون القصيدة (التي هي أيضا شهدت تنقيحات جمّة)، "أغنية نفسي". (4)

3- كان بودلير يدعو إلى الفردية في الفن مبينا المسار المتجاور للشر والخير، وكسخرية القدر الإنساني وملابساته التي لامفر منها، وعنوان الفصل الأول من "أزهار الشر": "المثالي والسوداوي" يوحي إلى أن واحدهما يكمل الآخر. إذ ليس هناك عالم مثالي من دون سوداوية مرضية وليس من سوداوية لا تحمل في بذرتها المثالي. أما ويتمَن فكان

الطبعة الأول من أوراق العشب، لم يبرّز أسمه بل صورته

يمجد الأنا مبينا مجيء الخير من الشر كتأكيد مركزي لحركة العالم نحو المثال الأعلى. ومفهوم "المثالي" لدى ويتمن يتلخص في مفهوم "النظام الديمقراطي"، النور العادل الذي كانت تستنير به تفاؤليته بالوجود الأمريكي.: "لعل الأمريكان، من بين جميع شعوب العالم وفي أي زمن على الأرض، أوفر طبيعة شاعرة. الولايات المتحدة ذاتها، في جوهرها، أعظم قصيدة ففي تاريخ الأرض حتى الآن، بدت أضخمُ الأشياء وأكثرها خَنوعةً طائعةً أمام ضخامتها الأكبر واثارتها الأكثر".

4- إن مفردة "الجديد"، عند بودلير، تنبع من مفهومه الذي اجترحه: الحداثة وهي التعبير الأسمى عن ظهور الفرد المستطرق الذي يتجول في المدينة حيث جمال غريب بل أحيانا مضحكا مثل كاريكاتير ورسوم دوميه وغيس، يتصاعد من الوجوه البشرية، الزحام، الضجيج، الضباب ودخان المداخن المتعاشقين فوق سماء باريس، البولفارات، الغالريات، واجهات المحلات… وباكتشافه للمدينة التي تكاد تشبه مخزن أزياء، يجمد المستطرق، المبدع، لحظة الجمال العابرة هذه في أبدية فنية.

5- "الجديد" عند ويتمن، يتضمن أساسا فكرة العالم الجديد بالمعنى السياسي للكلمة، عالم ديمقراطي عادل وإنساني: "على الشعراء الأمريكان أن يضموا القديم والجديد، لأن أمريكا هي خلاصة الأجناس البشرية". و"أنا" ويتمن غائية إبان جولاتها في مدينة بروكلين ونيويورك. ونظراتها على المدينة تنبع من زاوية رغبات مكبوتة، فويتمن ينظر إلى المدينة من زاوية الرغبة المقموعة، يستطرقها عل "رفيقا" يحقق ما لا يستطيع تحقيقه أخلاقيا علنا، أو "رفاقا" بالمعنى السياسي للكلمة، يحققون دعاويه في المثل الإنسانية. ويمكن القول بعبارة مجازية هو أن القصيدة لدى ويتمَن تحقيق مُـقـَنـّـع لرغبة مكبوتة، بينما هي لدى بودلير رغبة عابرة أختِزنـَت في صندوق الأبد جمالا فنيا.
المدينة لدى بودلير ليست موضوع أفضلية وإنما هي مسرح الحياة الحديثة، بينما ويتمن يريد من المدينة ان توفر له الفرصة للاحتفال بصميمية مع آخر وهمي، ومع هذا أن تبقى هذه الصميمية سرية في أعماقه.

خاتمة:
هذه الاختلافات الجوهرية في السيرة الشخصية وبالتالي في الغرض الشعري لا يمكن أن تنتج إلا أساليبها التعبيرية المناسبة لها، وأشكالها هي. "فالأسلوب يدل على صاحبه" كما يقول سان بوف (5). فلا يمكن المقارنة بين بودلير وويتمن أو محاولة إيجاد تأثير واحد على الآخر. لكن من الطبيعي أن تتوالف رؤيتهما الشعريتان تأثيرا على تيار آخر، أو شاعر آخر فيخلق منهما رؤية واحدة متماسكة وكأنهما من مصدر واحد. وهذا ماحدث في فرنسا: ظهور الرمزية الفرنسية التي جاءت نتيجة تجديدات بودلير وويتمن، إلى حد أنها زرعت فكرة تأثير هذا على ذاك.
فإذا وجد الباحثون والقراء أن هناك تشابها بين رؤى ويتمَن الشعرية ورؤية الرمزيين الفرنسيين في الشعر، فهو تشابه ناتج، قبل كل شيء عن تأثرهما معا وكل على طريقته بما كانت تنطوي افكار هيغو وساند وسان بوف والرومانتيكية الفرنسية من تساؤلات روحانية وغوص في المجهول. كما أن بودلير وويتمَن، وكل وفق منهجه، كانا وراء مبدأ الرمزيين الجمالي المفيد بضرورة استخدام الإيحاء والرمز للتعبير عن نسيج التجربة الحديثة وسرية العالم الروحي.

لو لم يعش بودلير في مدينة باريس القرن التاسع عشر، لما أستطاع، حتى لو عاش في نيويورك أو بروكلين أو أية مدينة أخرى، أن يجترح مفردة "الحداثة" التي غيرت ملامح النص الكوني. هل كان من الممكن أن تولد نظريات فرويد لو لم يعش في فيينا. للمدن الخلاقة التي يفور في أحشائها شتى الأعمال الإبداعية والتجارب الساعية للاتيان بجديد متميز بقطيعة معرفية، تنتظر ساعتها فتضع على جديد أرضها الكائن الذي سيقترن اسمها باسمه مكانا خالدا في الذاكرة الكونية. وأواخر النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان لباريس تأريخها الحداثوي: بودلير، مثلما كان للحلم تأويله الأخير: فيينا.

ليست هناك إمكانية تصور
بودلير من دون باريس
باريس من دون بودلير
فرويد من دون فيينا
فيينا من دون فرويد..
إنه مصير المكتوب في رسم حد فاصل بين التفكير الكلاسيكي والكتابة الحديثة.
لكن من السهولة تصور
نيويورك أو بروكلين من دون ويتمن
ويتمن من دون أية مدينة أمريكية.

ليس هذا تقليلا من قيمة ويتمن، كلا والف كلا. فديوانه "أوراق العشب" يقف إلى جانب "أزهار الشر" في التأثير على مجمل الذائقة الشعرية للقرن العشرين. إن نقطة الالتقاء الوحيدة بين ويتمَن وبودلير، في نظري، هي أن كلاهما أصيل. فمثلما نشم في "أزهار الشر"، عطر المرأة، رائحتها الجنسية، الخمور، الأفيون، جادات باريس وأزقتها، المقامرين والأنذال، العشق الفاجر والحب الافلاطوني، بل حتى "أزهار الخير" كما كتب سان بوف لبودلير، فإننا نشم أيضا في "أوراق العشب" هذا الشسوع الأمريكي المتدفق بكل أنهاره ومراعيه، برجاله الأحرار، ومزارعه، جباله وغاباته الكثيفة والمساقط المتغيرة لمياه الانهار، وأيضا نشم العدالة الديمقراطية التي كان ويتمن من أشرس المدافعين عنها. فوالت ويتمن هو ابن الحلم الأمريكي في بناء ديمقراطية عالمية عادلة.

على أن بودلير، حتى في نقطة الالتقاء هذه، يبقى فريدا في دوره الريادي شكلا ومضمونا عن مشروع والت ويتمن الهادف إلى "تحقيق لغة أمريكية حية منبثقة من الحياة الأمريكية".أضف إلى هذا أن بودلير شخصية فريدة لم يتمكن كاتب أن يؤثر فيه بمعنى التأثير الواضح، كان يقرأ مقالات ديدرو حول الفن، لكننا لا نجد لديدرو أي تأثير في بودلير الناقد. أعجب حد الاندهاش بادغار الن بو فترجم معظم أعماله إلى الفرنسية وبفضلها تعرفت أمريكا على ابن عبقري لها، ومع هذا ليست هناك ملامح حاسمة لـ"شاعر الزيغان الذهني والطاقات الروحية الغريبة" هذا واضحة في أعمال بودلير(6).

وإذا كان ويتمَن يحتفل بالـ"أنا" التفاؤلية:

"بنفسي أحتفل، ونفسي أغنـّيها
وما أتلبـّسه ستتلبـّسه أنت"
(ترجمة السياب)

فإن بودلير كان يحرث في أرض الموت والعدم من أجل الإتيان بجديد:

"أيها المنون! أيها القائد العجوز، لقد آن الإبحار
سئمنا من هذا البلد، فلننشر القلاع أيها المنون
إن كانت السماء والبحار سوداء كالمداد
فقلوبنا التي تعرفها أيها المنون مفعمة بالأشعة والنور.

اسكب لنا سُـمّـك لننعش به الفؤاد
وبأكثر مما تحرق هذه النار أفئدتنا
نريد أن نهوى بأنفسنا في قعر اليم نعيما كان أو جحيما
في قعر المجهول كي نستكشف الجديد"
(ترجمة مصطفى القصري)

الحلقة المقبلة (3/6): الدور الممهد لترجمة شعر ويتمن في ظهور الشعر الحر، وأطلقت فيما بعد تسمية الشعر الحر على "أوراق العشب"

هوامش:

1- البيت هذا من قصيدة كان لها عنوان مركب ثقيل في الطبعة الأولى: Proto-Leaf (الورقة الأم)!! فصار لها عنوان أفضل في طبعة عام 1867: Starting from Paumanok (بدءا من بومانوك).
2- تجدر الإشارة هنا إلى أنه في كتاب أسيلينوا (880 صفحة) نجد إشارات إلى كل الأسماء التي قرأها وتأثر بها ويتمن، إلا بودلير فلاتوجد سوى إشارتين بشأنه تتعلق فقط بما ذكرنا أعلاه
3- أنظر كتاب أسيلينو فصل "حياة جنسية"
4- انظر أسيلينو الفصول المتعلقة بالأسلوب، اللغة والوزن
5- غالبا ما يترجم الأعاريب كلمة سان بوف: Le style c’est l’homme بـ"الأسلوب هو الرجل"!!! بينما المعنى الحقيقي للعبارة هذه هو: "الأسلوب يدلّ على صاحبه".
6- أبان حياة بودلير حاول البعض اتهام بودلير بانه يأخذ من ادغار الن بو لكن دون أي حجة قوية، وسرعان ما انهارت اتهاماتهم. وقد رد بودلير قبل موته بعام على هذا الاتهام شارحا لماذا اهتم على هذا النحو الكلي بترجمة ادغار الو بو، قال "لأنه كان يشبهني. ففي المرة الأولى التي فتحت فيها كتابا له رأيت ليس فقط مواضيع حلمت بها بل جملا فكرت بها وهو كتبها قبل عشرين عاما"… وغالبا ما يخلط بعض الباحثين الاعجاب بالتأثير.

بكائية من أجل إغناثيو سانشيز ميخِيّاس
GMT 15:00:00 2007 الأحد 10 يونيو ترجمة عبدالقادرالجنابي

بقلم فيديريكو غارثيا لوركا (1898 – 1936)

ترجمة وتعليق عبدالقادر الجنابي: أطلعت على خمس ترجمات فرنسية وثلاث باللغة الانجليزية لقصيدة لوركا، فلم أجد واحدة تخلو من عديد الأخطاء والتأويلات البعيدة. لذا رجعت إلى الأصل الإسباني وقد لعبت زوجتي الإسبانية الأصل، دورا جد كبير في توضيح مبنى القصيدة ومغزاها كلمة كلمة، بيتا بيتا. أما الترجمات العربية فهي تصول وتجول في تجزير القصيدة حذفا وغلطا، إيقاعاً وتركيبا… سواء تلك التي قام بها عبد الرحمن البدوي بحيث أن مفردة bordon التي ترد في القصيدة، علاوة على انها تعني عصا (حاج)، فإنّ المعنى المراد لها في القصيدة هو “نغم الأوتار الجهيرة المطّرد”، لكنه صار عند الدكتور عبد الرحمن بدوي “زنبورا”! وهذا يعني انه ربما كان قد ترجم القصيدة عن نسخة فرنسية تحتوي على هذا الخطأ، وليس عن الأصل الأسباني، وهناك عناوين أخرى وجمل عديدة تزيد شكنا هذا مثل عنوان المتوالية الأولى “الجرح” بدل “النطحة”، لأن احد المترجمين الفرنسيين وضع la blessure كمقابل لـ bordon…
أو تلك التي انجز (ها) عليها خليفة التليسي وعدنان بغجاتي، و سعدي يوسف الذي غالبا ما تتحول لديه المعاني المرادة (في كل ترجماته) إلى معان غريبة، خذ مثلا عبارة :perros apagados والتي هي “الكلاب المنطفئة، باهتة أو خامدة” فقد ترجمها سعدي يوسف إلى “كلاب غامضة”! وخذ مثلاً آخر هذا البيت البسيط: “فما من كأس يحتويه” Que no hay c?liz que la contenga، لقد صار عند سعدي “إنه ليس كأسا لأتناوله”!!
إن أبسط مراجعة نقدية لما تُرجم من أدب غربي، وخصوصاً الشعر منه، إلى العربية، ستكشف عن حقيقة مؤلمة وهي ان العرب يقرأون بالغلط، وليس لديهم اية معرفة حقيقية بماهية هذا الشعر، وشفافيته الإنسانية وبالتالي تغيب عنهم إمكانية معرفة لماذا شعر الآخر هذا كوني ومُلهِم يتجاوب وأنا أي قارئ بغض النظر عن جنسية كاتبه المختلفة.
أمّا الآن، فإلى القصيدة التي بدأ لوركا كتابتها مباشرة بعد موت إغناثيو، ولم ينته منها إلا بعد عام. بالنسبة إلى لوركا، كانت مصارعة الثيران “فنا يكشف سيادة الذكاء على الغريزة، وكان إغناثيو بطلاً من أبطال الفن والإبداع”. بل رأى لوركا (حسب بعض الروايات) في موت إغناثيو “موته الآتي”… “بمناخس الظلمات”، أمرٌ جعل هذه البكائية شديدةَ العمق ودفع النقاد إلى أن يعدوها واحدة من أعظم المراثي التي كُتبت في تاريخ الشعر العالمي.
بكائية من أجل إغناثيو سانشيز ميخِيّاس (1935)
إلى صديقتي العزيزة انكارناثيون لوبث خوليث

النطحة والموت (1)
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
كانت تمام الخامسة بَعْد الظُهر.
جاء طفلٌ بملاءة بيضاء
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
قُفّةٌ من الجير جُهّزَت
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
ما تبقّى موتٌ ولا شيء سواه
في الخامسة بَعْْد الظُهر.

سَفَت الرياحُ القطنَ
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
والأوكسيد بَذَر نِيكلاً وبلّوراً (2)
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
ها هما الفهد والحمامة يتصارعان
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
وفَخِذٌ فيه قرنٌ أسِيف
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
بدأ ونين الأوتار الرتيب
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
الأجراس الزرنيخيّة والدخان
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
في الأركان جمهرات صمتٍ
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
والثورُ وحده لن تُثبَط عزيمتُه
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
حين أخذ العَرَق الثلجي يقترب
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
حين غُطّيَت الحلبة باليود
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
وضع الموتُ بيوضاً في الجرح
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
في تمام الخامسة الزواليّة
السرير نَعْشٌ ذو عجلات
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
عظامٌ ومزاميرُ ترنّ في أُدْنيه
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
ذا هو الثورُ يخور لُدن جبهته
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
كانت الغرفة مُقزّحَةً بسَكْرة الموت
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
ذي هي الغنغرينا قادمة من بعيد
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
بوق زنبقٍ في منبت الفخذين الأخضر (3)
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
كشموسٍ كانت الجراح تَلهبُ
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
وكانت الحشود تهشّم النوافذَ
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
في الخامسة بَعْْد الظُهر.
أه، يا لهول الخامسة بَعْْد الظُهر.
كانت الخامسة في كلّ الساعات
كانت الخامسة في ظل الأصيل.

الدم المراق
لا أريد أن أرى دمه.

قولوا للقمر أن يأتي
فلا أريد أن أرى دمَ
إغناثيو على الرمل.
لا أريد أن أرى دمه!

القمر مفتوحٌ على مصراعيه
جوادُ السُّحب الساكنة،
وحلبة المنام الرماديّة
ذات الصفصاف مدار الأسيجة.

لا أريد أن أرى دمَه!
فإنَّ ذاكرتي تشتعل.
ابلغوا الياسمين
ذا الزهيرات البيض!

لا أريد أن أرى دمه!

بقرةُ العالم القديم
مرّرت لسانَها الحزين
فوق مخطمِ الدماء
التي يتشرّبُها رملُ الحلبة، (4)
وثيرانُ غيساندو، (5)
كأنما هي موتٌ، حَجَرٌ،
تخور كقرنين من الزمن
سئمةً من وطء الأرض.
لا.
لا أريد أن أرى دمه!

عبر الدرجات يتجّه إغناثيو صُعداً
وجلُّ موتِه فوق ظهره.
كان يبحث عن الفجر
لكن الفجر لم يطلع
يتشوّف إلى طَلالَتِه الواثقة
فيضلّه المنام.
كان يبحث عن جسده الجميل
فوجد دمَه المفتوح.
لا تقولوا لي عليّ أن أرى الدّمَ!
لا أريد أن أتحسسَ الشُّخْبَة
الفاقدة كلَّ مرّةٍ قوّتها؛
تلك الشُخبة التي أخذت تنوّر (6)
المدرّجات وتَنصَبُّ
فوق مخامل
جمهور ظمآن وجلوده.
من ذا الذي يناديني كيما أُطِلُّ!
لا تقولوا لي عليّ أن أرى دمه!

لم يُغمض له جَفنٌ
حين رأى القَرنين قريبين،
لكنّ الأمّهات الرهيبات
أشرأبت رؤوسهنّ
ومن مَربى المواشي
ارتفعت نَدْهةُ أصواتِ سرّية،
أصواتِ رعاة الضباب الشاحب،
صارخةً إلى الثيران السماوية.

أميرٌ وليس كمثله
في اشبيلية أميرٌ،
ولا من سَيفٍ كسيفه،
ولا من شجاعة حقيقية إلى هذا الحد.
كسَيلٍ من الأُسود
قوّتُه المدهشة
وكتمثالٍ نصفي من المرمر
فطنته المرسومة
سيماءُ روما الأندلسية
كانت تكلل رأسَه بالذهب
بحيث غدت ضحكته سُنبُلاً
من المُلْحة والذكاء.
ما أعظمه من مصارع
ما أجوده من جبليّ!
ما أنعمه مع السنابل!
ما أقساه مع المهاميز!
ما أرقّه مع الندى!
ما أبهره في الأعياد!
ما أرهبه مع أخر
مناخس الظلمات! (7)

لكنّه الآنَ نائم نومةً سرمديّة.
ها هي الطحالب والأعشاب
تفتحُ بأصابع وثيقة
زهْرةَ جُمجمتِه.
هو ذا دمُه مغنّيا:
مغنّياً عبر المستنقعات والسُّهول،
ينزلق طوال القرون المتصلّبة من البرد،
يترنّح بلا روح في الضباب،
يتعثر بآلافِ الحوافر
كلسانٍ مستطيل، قاتم، كئيب،
مكوّناً قرب “وادي” النجوم “الكبير”
بِركةً من النزع الأخير.
آه يا جدارَ أسبانيا الأبيضَ!
آه يا ثورَ الحزن الأسودَ!
آه يا دمَ إغناثيو العسيرَ!
آه يا عندليبَ أوردتِه!
لا.
لا أريد أن أرى دمَه!
فما من كأس يحتويه،
ولا من سنونو يشربه،
ولا من صَقعة نورٍ تبرّده،
ما من أغنية ولا فيضان زنابق،
ولا من بلّور يُفضِّصَهُ.
لا.
لا أريد أن أرى دمَه!

جسدٌ حاضر (8)

بَلاطةُ الحجر (9) جبهةٌ حيث تنوح الأحلام
ليس لها ماء متعرّجٌ ولا سَرْو جليدي،
إنّها ظَهْرٌ محمولٌ فوقه الزمنُ
وأشجارُه المجبولة من الدمع، أشرطتُه وأجرامُه النّيّرة.

رأيتُ أمطارا رماديّةً تهرع تجاه الموج
رافعةً رهيفَ أذرعتِها المُثَقَّبةِ كالغربال،
كي لا يقتنصها الحجرُ الممدّد
الذي يطلق أعضاءها دون أن يتشرّب بالدّم.

فالحجر يمسكُ بالغيم والبِذار،
بهياكل القبّرات وذئاب الغَبش،
لكنّه لا يعطي أصواتاً ولا بلّورا ولا ناراً،
بل حلبات وحلبات ومزيدا من حلبات دون أسوار.

ها هو إغناثيو كريم الأصل والمنبت
ممدّدٌ على بَلاطة الحجر.
لقد أنتهى الأمر؛ ماذا يجري؟ انعموا النظر:
الموتُ يغطّيه بكبريت شاحب
ويعطيه رأسَ “مينوتور” داكن.

لقد أنتهى الأمر. من فمه يلجُ المطرُ.
مرتعباً يتركُ الهواءُ صدرَه المنخسِف.
والحبّ، المُشرّب بدموع الثلج،
يتدفّأُ في سدرة المراعي.

ماذا يقولون؟ صمتٌ منتن يستقرُّ.
نحن أمام جسدٍ حاضرٍ يتلاشى،
ذي شكل جليّ كان له بلابل
وها نحن نراه يمتلئ بثقوب ليس لها قرار.

مَن يجعّد الكفن؟ ليس صحيحاً ما يقوله!
فما من أحد هنا ليغنّي أو يبكي في ركنٍ ما،
ولا مَن يَنخسُ أو يرهب الأفعى
هنا لا أريد إلاّ عينين مستديرتين
حتّى أرى هذا الجسدَ دون راحة ممكنة.

أريد أن أرى هنا رجالاً أقوياءَ الصوت،
أولئك الذين يروّضون الخيل ويتحكّمون في الأنهار:
أولئك الذين ترنّ هياكلهم العظمية، ويغنّون
بأفواه مليئة بالشمس والصّوان.

أريد أن أراهم هنا. أمام بَلاطة الحجر
أمام هذا الجسد المحطّم العنان.
أريدهم أن يدلّوني على مخرجٍ
لهذا الربّان المقيّد بالموت.

أريدهم أن يلقنوني بكائية شبيهة بنهرٍ
عذب الضباب وعميق الضفاف
يجرف جسدّ إغناثيو معه حتّى يتلاشى
دون أن يسمعَ نخيرَ الثيران المضاعف.

علّه يتلاشى في الحلبة المستديرة للقمر
المتظاهرِ منذ الطفولة دابةً عليلة مشلولة؛
علّه يتلاشى في ليل خال من غَرَدِ الأسماك
وفي أجَمة الدخان المجمّد البيضاء.

لا تغطّوا وجهه بالمناديل،
أريده أنْ يعتاد على هذا الموت الذي يحمله.
اذهب يا إغناثيو. لا تسمع هذا الخوار الحار.
نمْ. حلّقْ. استرحْ: فالبحر أيضا يموت.

روح غائبة
لا الثورُ يعرفك ولا شجرةُ التين
لا الخيلُ، ولا نملُ دارِك.
لا الطفلُ يعرفك ولا ساعة الأصيل
لأنّكَ مُتّ إلى الأبد.

لا ظهرُ الحجرِ يعرفك،
لا الحريرُ الأسود حيث تتفتّت.
ولا ذاكرتُك البكماءُ تعرفك
لأنّكَ مُتّ إلى الأبد.

سيأتي الخريف بأبواق المحار، (10)
بأعناب الضباب وأفواج الجبال،
لكنّ أحداً لن ينظر في عينيك
لأنّكَ مُتّ إلى الأبد.

لأنّكَ مُتّ إلى الأبد.
ككلّ موتى الأرض،
ككلّ الموتى المنسيين
في كومة من كلاب منطفئة.

كلا. لا أحد يعرفك. لكنني أتغنّى بك.
أتغنّى بطَلالتكَ ولطفكَ، لفيمابعد.
بنضجِ حصافتك المرموق.
باشتهائك الموتَ وطعم فمه.
بالحزنِ الذي امتلكَتْهُ ذات مرّةٍ بهجتُك الباسلة.

لوقتٍ طويلٍ لن يولد، هذا إذا وُلِدَ،
أندلسيٌّ جليّ مثلك، وغنيّ بالمغامرة مثلك،
ذا أنا أُعظّم أناقتَه بنائح الكلمات،
ومتذكراً نسمة حزينة تخلّلت أشجار الزيتون.

إحالات:
1- La cogida تعني حرفيا المَسْكة أو اللّزمة، أي نطحة القرن الجارحة جرحا جد بليغ، بحيث غالبا ما يُصاب المصارعُ إثرها بالغنغرينا الآكلة. وهذا عين ما حصل لميخيّاس فمات في اليوم الثاني. ويقال أن لوركا لم يكن بعيدا، رفض الذهاب الى المستشفى لرؤيته رغم ما توحيه أبيات المتوالية الثالثة، مثل: “نحن أمام جسد حاضر يتلاشى”.
2- ترجم بعض المترجمين خصوصا الانجليز كلمة Oxido (أوكسيد) بـ rust (صدأ) مشيرين إلى مرض الشّقران في النبات. فضلت الاحتفاظ بالصورة كما هي في الأسبانية، إذ ليس هناك ما يشير إلى ذلك.
3- عصبة زنابق مشدودة على هيئة صُور. المعروف عن لوركا، كما يتضح لنا من خلال التحقيق النقدي للمسوّدات الذي قام به المختص بأعماله في اللغة الفرنسية أندريه بيلاميش، أنّ لوركا كان يشتغل قصيدته صوريا، ربما بسبب تأثره بالسوريالية. فمثلا هذا البيت: “بوق زنبق في منبت الفخذين الأخضر” كان في المسودة الأولى: “بوق زنبق في الأزقة”، وفي مسوّدة ثانية “في منبت الفخذين المكسور” قبل أن يستقر في شكله الحالي. بل كان يعمل، أحيانا، على تغيير الصورة كلها كما في في بداية البيت الأول من المقطع السابع في المتوالية الثالثة: “من يجعّد الكفن”، كان في المسوّدة الأولى: “من يتكلّم أسفل السور”.
4- Arena كلمة لاتينية تعني “الرمل” ومعروف عنه أنه يتشرّب الدم المراق. وقد أصبحت تعني في الانجليزية والفرنسية “حلبة” لكن احتفظت الأسبانية بالمعنى اللاتيني الأصلي. واستعمل لوركا في قصيدته كلمة La plaza كـ”حلبة”.
5- “ثيران غيساندو” تماثيل قديمة تعود إلى العهد الروماني.
6- ilumina يستعمل لوركا فعل “ينوّر” بمعنى “ينمنم أو يزخرف” مخطوطة. وثمّة مخطوطات تسمّى بالعربية “المخطوطات المنوّرة” أي المزوّقة. يذكر التوحيدي: “قال أبو سليم: كنت أكتب المصاحف فمرّ بي علي بن ابي طالب رضي الله عنه فقال: أُجلِلُ قلمك. فقصمتُ منه قَصمةً ثم كتبتُ فقال: نعم هكذا، نوِّرْهُ كما نوَّره الله”.
7- banderilla عصا يثبت في رأسها إبرة طويلة حادة تغرز في عنق الثور للقضاء عليه. يترجمه البعض يمغرز، لكنني فضلت كلمة منخس.
8- فضلت ترجمة عنوان المتوالية الثالثة Cuerpo presente بـ”جسد حاضر” لا بـ”جسد ظاهر للعيان أو جثمان مسجى”، حفاظا على التقابل الذي يضمره لوركا بينها وبين عنوان المتوالية الرابعة: “روح غائبة”.
9- Caracola تعني في منطقة “مورسي” زهرة متسلقة، وفي الأسبانية عموما تعني الحلزون، وصدفة جد صغيرة بيضاء، أما في اشبيلية حيث ولد ميخيّاس فتعني صدفة كبيرة يستعملها الرعاة بوقا.

اضغط على الرابط التالي لقراءة النص الأصلي للقصيدة:
http://home.tiscali.be/ericlaermans/cultural/lorca/llanto_por_ignacio_sanchez_mejias/indice.html

إغناثيو سانشيز ميخِيّاس
ولد في السادس من حزيران عام 1891 وتوفي في 12 آب 1934. كان إغناثيو سانشيز ميخِيّاس معروفا كأحد المصارعين الكبار، رغم أنه لم يمتهن هذا الفن، إذ كان غالبا ما يترك مهنة المصارعة ليركز على اهتماماته الشخصية الأدب والفلامنكو، وقد كتب مسرحية، وكان صديقا لعدد من الأدباء من بينهم لوركا. في مصارعته الأخيرة، (11 آب) عندما حاول ان يقف على قدميه إثر سقطة عادية، استدار الثور فجأة وغرز احد قرنيه في فخذه وقذفه على الأرض وجرحه بشدّة. وعندما سحبوا الثور بعيدا، كان إغناثيو يسبح في بركة من الدم يتشرّبها رمل الحلبة، وشقت الغنغرينا طريقها إليه ليموت في اليوم التالي.

تنبيه: نشرت هذه الترجمة مع التقديم والاحالات أو في “القدس العربي”(1995)، وأعيد نشرها في “ايلاف” عام 2003.

بكائية من أجل إغناثيو سانشيز ميخِيّاس.

I have installed an interesting application – BlogJet. It’s a cool Windows client for my blog tool (as well as for other tools). Get your copy here: http://blogjet.com

“Computers are incredibly fast, accurate and stupid; humans are incredibly slow, inaccurate and brilliant; together they are powerful beyond imagination.” — Albert Einstein

Assonance

(i.m Edward Saïd)

Mahmoud Darwich

Traduction de Jalel El Gharbi

Cinquième avenue/Novembre/New York
Le soleil est un plateau en métal qui vole en éclats
J’ai dit à mon âme étrangère dans l’ombre
Est-ce Babel ou Sodome ?
Là, sur le seuil d’un précipice électrique
J’ai rencontré Edward à hauteur de ciel
Il y a de cela trente ans.
Le temps était moins fougueux qu’il ne l’est aujourd’hui
Chacun de nous dit :
Si ton passé est expérience
Fais du lendemain sens et vision
Allons donc
Allons donc
Vers notre lendemain assurés
De la franchise de l’imagination et du miracle de l’herbe.
Je n’ai pas souvenir que nous soyons allés au cinéma
Le soir mais j’ai entendu des Indiens
Devant moi m’interpeller : ne te fie
Ni au cheval ni à la modernité.
Non, aucune victime ne demande à son bourreau :
Es-tu moi-même ? Si mon épée était
Plus grande que ma rose demanderais-tu
Si je ferais comme tu fais ?
Une telle question suscite la curiosité de l’esthète
Dans un bureau vitré donnant sur des
Tulipes dans un jardin là où
La main de l’hypothèse est pure
Comme la conscience de
L’esthète quand il règle ses comptes avec
La tendance humaine. Il n’y a pas de lendemain
Dans le passé, avançons donc.
Le progrès est peut-être
Un pont qui ramène vers la barbarie…
New York. Edouard se réveille
A la paresse de l’aube. Il joue un air de Mozart
Cavale dans le court de tennis de l’université
Et pense à la migration de la pensée à travers les frontières,
Par-dessus les barrières. Il lit le New York Times,
Ecrit un commentaire enfiévré et maudit un orientaliste
Qui indique à un général le point faible
Dans le cœur d’une orientale. Il prend son bain. Il choisit
Son costume avec l’élégance d’un coq. Il prend
Son café au lait et crie à l’aube :
Assez d’atermoiements.
Il marche sur le vent. Et dans le vent,
Il sait qui il est. Le vent n’a ni toit
Ni maison. Le vent est la boussole
Indiquant le nord pour l’étranger.
Il dit : je suis là et suis ici
Je ne suis ni là ni ici.
J’ai deux noms qui se rencontrent et se séparent
J’ai deux langues. Et j’ai oublié dans laquelle des deux
Je rêvais
J’ai un anglais aux mots malléables
Pour écrire
Et j’ai une autre langue extraite du dialogue du ciel
Avec Jérusalem, son timbre est argenté
Mais elle ne suit pas mon imagination.
-Et ton identité ? dis-je
– C’est se défendre…
L’identité est fille de la naissance
Mais elle est en fin de compte invention de son homme
Et point un héritage. Moi, le multiple je porte
Dans mon dedans mon dehors renouvelé. Mais
J’appartiens à la question de la victime. Si je n’étais pas d’ici
J’aurais entraîné mon cœur à élever
Là-bas la gazelle de l’écriture…
Emporte donc ton pays partout où tu vas et sois
Narcissique s’il le faut.
Exil est le monde intérieur
Exil est le monde extérieur
Qui es-tu alors entre les deux ?
Je ne me définis pas
De peur de m’égarer. Je suis ce que je suis.
Je suis mon autre dans une dualité
Dans une consonance entre la parole et le signe
Si j’écrivais de la poésie, j’aurais dit :
Je suis deux en un
Comme les deux ailes d’une hirondelle
Qui se contente d’annoncer la bonne nouvelle
Quand tarde le printemps,
Qui aimant un pays le quitte
[L’impossible est-il lointain]
Qui aime partir vers n’importe quoi
Car c’est dans le voyage libre entre cultures
Que les chercheurs de l’essence humaine trouveront
Assez de sièges pour tous…
Ici, avance une marge. Ou alors c’est un centre qui
Recule. L’Orient n’est pas complètement Orient
Ni l’Occident parfaitement Occident
L’identité est ouverture à la pluralité
Elle n’est ni citadelle ni tranchée.
La métaphore dormait sur la rive du fleuve.
N’eut été la pollution
Elle aurait embrassé l’autre rive
-As-tu écrit des romans ?
-J’ai essayé…essayé de récupérer
Mon image dans le miroir des femmes lointaines, avec le roman
Mais elles se sont engouffrées dans leur nuit imprenable
Et elles m’ont dit : nous avons un monde indépendant du texte
L’homme n’écrira pas la femme, l’énigme ni le rêve
La femme n’écrira pas l’homme, le symbole ni l’étoile
Aucun amour ne ressemble à un autre. Aucune nuit
A une autre. Enumérons donc les qualités
Des hommes et rions !
– Et qu’as-tu fait ?
J’ai ri de mon absurdité
Et jeté le roman
A la poubelle
Le penseur freine la narration du romancier
Et le philosophe explique les stances du chanteur
Aimant un pays il le quitte :
Je suis ce que je suis, ce que je serai
Je me mettrai bas moi-même
Et choisirai mon exil. Mon exil est l’arrière fond
De la scène épique
Je défends le besoin qu’ont les poètes
A la fois d’un lendemain et de souvenirs
Je défends des arbres que revêtent les oiseaux
 En guise de pays et d’exil
Je défends une lune encore valable
Pour un poème d’amour
Je défends une idée brisée par la fragilité de ceux qui y croient
Je défends un pays ravi par les mythes
-Peux-tu revenir vers n’importe quoi ?
Mon devant traînent mon arrière et se hâte
Je n’ai pas de temps à ma montre pour tracer des lignes
Sur le sable. Mais je peux aller vers hier
Comme le font les étrangers quand ils entendent
Par un soir triste le poète pastoral :
« A la fontaine, une fille remplit sa cruche
Avec les pleurs des nuages
Et rit et pleure pour une abeille
Qui a piqué son cœur là où souffle l’absence
L’amour est-il ce qui fait mal à l’eau ou bien
Une maladie dans le brouillard… »
[Jusqu’à la fin de la chanson]
-Tu peux donc être sujet au mal de la nostalgie ?
-Oui une nostalgie pour un lendemain plus lointain, plus haut
Et encore plus lointain. Mon rêve guide mes pas.
Et ma vision assoie mon rêve sur mes genoux
Comme un chat domestique, lui le réaliste, le fictif
L’enfant de la volonté : nous pouvons
Changer la fatalité du précipice !
– Et la nostalgie pour hier ?
C’est une émotion qui ne concerne le penseur
Que pour comprendre l’aspiration de l’étranger aux outils de l’absence.
Quant à ma nostalgie, elle est lutte contre un présent
Qui tient le lendemain par les testicules
-Ne t’es-tu pas infiltré vers la veille quand
Tu es rentré chez toi à
Jérusalem au quartier Talbia ?
Je me suis préparé à m’allonger
Dans la garde-robe de ma mère comme le fait l’enfant
Quand il a peur de son père et j’ai cherché à
Me remémorer ma naissance et à suivre
La voie lactée sur le toit de la vieille maison
Puis j’ai cherché à tâter la peau
De l’absence et l’odeur de l’été venant
Par le jasmin du jardin. Mais la hyène de la réalité
M’a éloigné d’une nostalgie qui s’est retournée comme une voleuse
Derrière moi.
-As-tu eu peur ? Et de quoi ?
Je ne peux rencontrer l’échec face à
Face. Je me suis arrêté devant la porte comme un mendiant
Demanderai-je l’autorisation à des étrangers qui dorment
Dans mon propre lit, pour me visiter
Pendant cinq minutes ? Dois-je m’incliner avec respect
Devant ceux qui habitent mon rêve d’enfant ? Demanderont-ils
Qui est ce visiteur étranger importun ?
Pourrai-je parler de guerre et de paix
Parmi les victimes et les victimes des victimes sans
Mots supplémentaires ni phrases intercalées ?
Me diront-ils : il n’y a pas place pour deux rêves
Dans un même lit ?
Ce n’est ni lui ni moi
Mais un lecteur qui se demande
Ce que nous dira la poésie en temps de catastrophe
Du sang,
Du sang.
Du sang
Dans ton pays
Dans mon nom, dans le tien, dans
La fleur d’amandier, dans la peau de banane,
Dans le lait de l’enfant, dans la lumière, dans l’ombre,
Dans le grain de blé, dans la salière,
Des snipers adroits atteignent leurs cibles,
Avec excellence
Du sang,
Du sang
Du sang
Cette terre est plus petite que le sang de ses enfants,
Debout au seuil de la résurrection comme
Des sacrifices. Cette terre est-elle vraiment
Bénie ou alors baptisée dans
Du sang
Du sang
Du sang
Que ni les prières ni le sable n’assèchent
Il n’y a pas de justice dans les Saintes Ecritures
Qui suffirait pour que les martyrs aient le bonheur de
Marcher au-dessus des nuages. Du sang le jour.
Du sang dans l’obscurité. Du sang dans le langage !
Il a dit : le poème peut accueillir
La perte, rai de lumière brillant
Au cœur d’une guitare ou un Christ sur
Une jument et lardé de belles métaphores
L’esthétique n’est que la présence de la vérité
Dans la forme
Dans un monde sans ciel
La terre devient précipice et le poème
Un don du deuil ou une des qualités
Du vent du Sud ou du Nord.
Ne décris pas tes blessures
Celles que la caméra voit et crie pour t’entendre
Et crie pour savoir que tu es encore en vie
Et encore en vie et que la vie sur terre
Est possible. Invente un espoir aux mots
Crée un parti ou un mirage qui prolongerait l’espoir
Et chante car l’esthétique est liberté
La vie qui se définit par son contraire,
Dis-je, c’est la mort… non pas la vie.
Nous vivrons, dit-il, si la vie nous laisse
Tranquilles. Soyons maîtres des mots qui
Rendront éternels leurs lecteurs -selon
L’expression de ton génial ami Ritsos-
Si je meurs avant toi
Je te confie l’impossible, dit-il.
J’ai dit : l’impossible est-il lointain ?
A une génération, dit-il.
-Et si je meurs avant toi demandé-je ?
-Je présenterai mes condoléances aux monts de Galilée, dit-il,
Et j’écrirai « l’esthétique n’est que
D’atteindre l’idoine » Maintenant, n’oublie pas :
Si je meurs avant toi, je te confie l’impossible !
Lorsque je l’ai visité dans la nouvelle Sodome
En l’an deux mille deux il militait à la fois contre
La guerre de Sodome contre les gens de Babel…
Et contre le cancer. Il était comme le dernier héros
Epique, il défendait le droit de Troie
A avoir sa part dans le roman
C’était un aigle qui disait adieu à sa cime
Très haut
Très haut
Car résider sur l’Olympe
Et sur les sommets
Suscite l’ennui
Adieu
Adieu poésie de la douleur !